أحكام الجوار بين سوريا وتركيا تفرض عليهما منطقا شبه إجباري بانتهاج واحد من سبيلين.
إما سبيل الاحتراب والمناوشات، وبالتالي عدم الاستقرار لكليهما بصرف النظر عن تفاوت مستويات وقدرات القوة بين كل منهما، وإما سبيل التفاهم والتصالح والتعاون الذي يعود بالفائدة عليهما بعيدا عن حسابات الربح والخسارة وطبيعة موازين القوة بينهما.
البلدان الجاران، سوريا وتركيا، مرّا في التجربتين على حد سواء، التجربة الأولى كانت بداية الألفية الثانية، حيث ازدهرت العلاقات على صعيد التعاون الاقتصادي والتجاري، وتطورت إلى تنسيق سياسي رفيع وعالي المستوى بشأن قضايا كبرى في المنطقة، من أبرزها عملية السلام بين سوريا وإسرائيل، حيث أدارت أنقرة في شهر مايو/أيار عام 2008 مساراً تفاوضيا غير مباشر في إسطنبول بين الجانبين بلغ مستويات متقدمة من التفاهم، وكادت الدبلوماسية التركية أن تعيد المفاوضات المباشرة بين سوريا وإسرائيل إلى سكّتها، وأن تمهد لتوقيع معاهدة سلام بينهما لولا الصراع الإسرائيلي الداخلي وقتذاك الذي وأد ذلك المسار.
على الصعيد الثنائي؛ قفزت العلاقات بين دمشق وأنقرة إلى الأمام بشكل استثنائي حين قررت القيادتان السياسيتان إزالة الحواجز من على حدود البلدين، والسماح بتنقل مواطنيهم بهوياتهم الشخصية فقط دون تأشيرات مسبقة.
أما التجربة الثانية فقد عاشها البلدان الجاران منذ عام 2011، بعد اندلاع الأحداث في سوريا وصولا إلى وقتنا الراهن.
أنتجت الأزمة السورية خلال ما ينوف على عقد من الزمن تصدعات ومتاعب سياسية وميدانية لم يسلم منها أحد حتى من اللاعبين المنخرطين فيها، وكان لتركيا النصيب الأكبر بسبب حجم الانخراط الميداني والسياسي، الذي ما فتئ اليوم يتحول إلى نوع من الأعباء الأمنية والاقتصادية والسياسية أيضا، فما حققته من مكاسب جيوسياسية متنوعة -وفق رؤيتها- سرعان ما بدا في الآونة الأخيرة أنه مكاسب ظرفية نظرا لما تنطوي عليه من تحديات بعضها داخلية، كقضية اللاجئين، التي تفاعلت وأثّرت ليس على المشهد الاقتصادي الداخلي فحسب، بل تطورت وأسهمت في تفجير نزعات لدى بعض الشرائح التركية بطابع عنصري ضد كل ما هو غير تركي وليس ضد السوريين فقط، وكان ذلك السلوك بمثابة الإنذار لأنقرة، حيث وجدت الدولة التركية نفسها أمام خطر يداهم الأمن المجتمعي التركي قبل غيره، فضلا عن تأثيره على هيبتها وصورتها الشائعة بأنها بلاد منفتحة على الجميع، وما يحمله من منعكسات سلبية على السياحة في البلاد وعلى الوضع الاقتصادي الصعب أساسا.
أما التحدي القادم من خارج حدودها، وتحديدا من الداخل السوري، فمبعثه إغراءات القوة لدى الجانب التركي دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح القوى الكبرى الدولية والإقليمية عموما، والسورية بشكل خاص عندما تعلق الأمر بمحاربة "قسد" شرق الفرات، ومحاولات وقف تمددها وانتشارها إلى تخوم الحدود الجنوبية لتركيا، ليتضح في خضم هذه الأحداث بأن هذه الإفرازات الناجمة عن الأحداث في سوريا هي الأخرى باتت تشكل نوعا من العبء على كاهل أنقرة، وأخذت تتجلى بصيغ مختلفة؛ منها تبعات السيطرة على آلاف الكيلومترات من الأراضي السورية شمالا، وما تتطلبه إدارتها من دعم لوجستي، وما تقتضيه من إدارة أمنية لبضعة ملايين من السوريين على مختلف مشاربهم وقناعاتهم منتشرين في تلك المناطق.
يضاف إلى ذلك احتضانها ورعايتها عشرات آلاف المسلحين السوريين المعارضين للحكومة السورية، حيث الصراعات المسلحة لا تفتر بين تلك المجموعات لدوافع وغايات متنوعة، علاوة على تبعات خصوصية محافظة إدلب التي تسيطر هيئة تحرير الشام على أجزاء واسعة منها والأعباء الأمنية والسياسية التي تفرضها، كونها محسوبة على أنقرة بشكل أو بآخر، رغم تصنيفها الدولي، وحتى من جانب تركيا، كمنظمة إرهابية انسجاما مع قرار مجلس الأمن الدولي الصادر في مايو/أيار 2013.
هذا الواقع الماثل حاليا يفسح المجال أمام أسئلة لا حصر لها حول مآلاته في حال استمراره دون حلول، كما يطرح أسئلة أشد تعقيدا حيال المتضرر الأكبر من بقائه إذا استمر الجمود يلف مسار التفاوض المتوقف حاليا.
ليس من شك في أن كلا البلدين متضرران من بقاء المشهد على حاله الراهن، فقد يؤدي إلى تحولات في خارطة الصراع ليست في الحسبان، وربما دخول لاعبين آخرين على مسرح الأحداث.
المصالحة بين سوريا وتركيا هي الخيار الأنجع لكل طرف، الاتفاق على خارطة طريق تحفظ حقوق الجميع وتصون مصالحهم غير مستحيل في حال التقت الإرادة السياسية لدى الجانبين على حقيقة ضرورة تقاسم أثمان حل القضايا العالقة بينهما.
العناصر التي تغذي الصراع الميداني والسياسي القائم، هي ذاتها تنطوي على مفاتيح الدخول إلى آفاق التفاهم، والتأسيس للتوصل إلى صفقة شاملة تعالج جميع الملفات دفعة واحدة.. معالجة كل ملف بشكل مستقل عن الآخر أو عن بقية الملفات المتراكمة أقرب إلى الاستحالة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة