تتعثر إسرائيل على طريق السلام مع الفلسطينيين، لأنها رغم كل ما تملكه من القوة العسكرية فإنها تفتقر إلى الشجاعة السياسية.
لم تكشف أحداث ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن شيء بمقدار ما كشفت عن مستوى غير مسبوق من مشاعر الذعر في إسرائيل.
الثقة بالنفس انهارت في غمضة عين، وأصبح النداء الرئيسي الذي يحيط بردود الفعل هو "إنها حرب حياة أو موت"، أو "إما النصر وإما زوال إسرائيل من الوجود".
تسأل: أين مضت الـ75 عاما من بناء دولة إسرائيل إذا كانت عملية عسكرية، محدودة النطاق الجغرافي، تتحول إلى معركة بقاء أو عدم بقاء؟.
الحقيقة هي أن هناك هشاشة معنوية، هي التي حركت ذلك النداء، وحولته إلى عملية عسكرية انفعالية، ينفذها قادة غاضبون ومرتبكون ويبحثون عن سبيل للانتقام، وكأنهم ينتقمون ليس لكرامة مهدورة، وإنما لما صوّروه بأنفسهم على أنه "وجود تعرض إلى زلزال". وأصبح من الجائز، بالتالي، أن يستخدموا كل ما لديهم من قوة عسكرية لإنقاذ هذا الوجود من الانهيار.
لو كانت هناك ثقة بالنفس لكانت ردود الفعل أكثر انضباطا بكثير، ولكان قد تم وضع أهداف أكثر واقعية للحرب، بدلا من الأهداف التي أصبحت هي ذاتها مشكلة.
مؤسسو دولة إسرائيل كانوا يقرون بأن "هزيمة واحدة تكفي للقضاء على دولة إسرائيل". هذه الفكرة ما تزال فكرة مهيمنة هناك، رغم كل ما مرّ عليها من وقت ومتغيرات. وهي التي تقود ردود الفعل العسكرية ضد غزة، حتى أصبحت الدعوة إلى "قتل الجميع" هي العنوان العملي في الميدان.
ولكن 75 عاما، ونطاقا متزايدا من التعايش في المحيط الإقليمي، والضمانات الدولية، فضلا عن القوة العسكرية نفسها، كان من المفترض أن ترسي الأساس لفكرة أخرى، تتقبل النصر وتتقبل الهزيمة، بوصفهما مناورة حقائق وإمكانيات، قد تكسب شيئا وقد تخسر آخر.
القوى الكبرى الحقيقية يمكن أن تتعرض للهزيمة. الولايات المتحدة هُزمت غير مرة في غير مكان، ولم يصبها ذلك المستوى من "الذعر الوجودي". كما هزمت قوى عظمى أخرى، ولم تشعر أن أركان وجودها تهتز بـ"زلزال".
جدول أعمال اليمين الإسرائيلي الصاخب، هو بحد ذاته برنامج أعمال قائم على الذعر، ودعواته للاستيلاء على الأرض والسيطرة على كل شيء، وبناء السياجات والأسوار المدججة بالثكنات والكاميرات، تؤكد الانطباع بأن انعدام الثقة بالنفس هو السبب. وهو ما يدفع إلى أن يفتقر الإسرائيليون إلى الشجاعة على اقتحام معركة السلام، رغم كل ما أحاطوا به أنفسهم من صواريخ ودبابات ومدافع وطائرات.
السلام في حاجة إلى شجعان، يجرؤون على قبول الحقائق وتقديم التنازلات لها. وهذا مما لا تنفع به صواريخ ولا طائرات.
الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قاد ما وصفه بـ"سلام الشجعان" دون صواريخ ولا طائرات، كل ما فعله هو أنه تجرأ على قبول الحقائق وقدم ما تطلبته من التنازلات.
اتفاقات أوسلو، ما كان أمامها إلا القليل لتتحول إلى اتفاق تاريخي للسلام، إلا أن الذين افتقروا للشجاعة، وآمنوا بالصواريخ والطائرات دمروا المسعى، واختاروا سبل القهر والتعسف والتوسع، ظنا منهم أن ذلك سوف يوفر لهم أمنا، فلم يفعل، بدلا من ذلك وفر لهم انتفاضات تلي انتفاضات، وحروبا تلي أخرى، وأعمال قتل لم تنقطع يوما واحدا.
لو وضعت هذه الحصيلة أمام الدعوات الدولية التي تزداد رسوخا اليوم لإحياء "حل الدولتين" باعتباره الطريق الوحيد الممكن لتحقيق السلام، فسرعان ما سوف تكتشف أن الذين وقفوا وراء سياسات التوسع الاستيطاني وأعمال القهر والقتل، حفروا قبر سياساتهم تلك بأيديهم.
الراحل عرفات تنازل لحقيقة أنه لم يعد بالإمكان "رمي اليهود بالبحر"، وأدرك أنه ما كان ذلك صحيحا أصلا من الناحية الإنسانية أو الأخلاقية، رغم كل ما عاناه شعبه من المظالم والحرمان. فامتلك الشجاعة ليرفع غصن الزيتون.
قد يتحقق أو لا يتحقق "حل الدولتين"، وقد تبرز حلول أخرى، إلا أنها جميعا تتطلب شجاعة للقبول بالحقائق وتقديم التنازلات لها.
أول هذه الحقائق، وأبسطها، هي أن سبعة ملايين فلسطيني يعيشون في الأراضي المحتلة، لا هم "لقمة سائغة" ولا يمكن رميهم بالبحر، وليس ذلك صحيحا من الناحية الإنسانية أو الأخلاقية. إلا أن النخبة السائدة في إسرائيل لم تمتلك الشجاعة بعد لتبلغ هذا الاستنتاج.
لماذا؟
لأن لديها الكثير من الصواريخ والمدافع والدبابات والطائرات التي تغنيها عن الحاجة للسلام، حتى لو أنها ظلت تحرمها من الثقة بالنفس، وتحيطها بالخوف من أن وجودها كله رهن بهزيمة واحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة