ثمة ملامح جديدة وقاسية تكسو خرائط الإقليم، الأحداث تتدفق بشكل غير مسبوق، تعقيدات وتشابكات تستدعي التاريخ على رقعة الجغرافيا، انفجارات ظلت مكتومة حتى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، هذا الحدث جاء إلينا من بعيد، حاملا رسالة عمرها 75 عاما.
الحرب الإسرائيلية على الأشقاء الفلسطينيين هذه المرة لم تكن جولة عادية كالسابق، بل صاغت قواعد وآليات ومفاهيم جديدة داخل الإقليم وخارجه، صدى وتداعيات هذه الحرب امتد إلى الجنوب اللبناني، وأيقظ الميدان العراقي، ووضع سوريا أمام اختبار صعب، وأشاع الفوضى والتوتر في البحر الأحمر.
كانت هذه هي دائرة الخطر الأولى لهذه الحرب على غزة، بينما كانت الدائرة الثانية تتسع، باستدعاء الأساطيل والغواصات إلى المياه الإقليمية والدولية، سواء في البحر المتوسط أو البحر الأحمر أو بحر العرب أو المحيط الهندي، ثم واصل الخطر اتساعه باستنفار القواعد العسكرية الغربية الأمريكية والأوروبية.
أما الدائرة الثالثة فعنوانها الدول الإقليمية الكبرى المجاورة والملاصقة للمنطقة العربية، ولديها مصالح وأذرع مختلفة في قلب الخرائط العربية، وأيضا لديها تداخلات مع القوى الأجنبية التي جاءت بأساطيلها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مما يشكل عبئا إضافيا على خريطة الإقليم العربي، فهذه القوى لو تصادمت مع الأساطيل الآتية من الغرب الأوروبي والأمريكي، فحتما ستجعل من الأراضي العربية لوحة تنشين، وربما تنخرط القوى العربية في النزاعات دون ترتيب أو قصد، لكن اتساع دائرة النيران قد تطول أطرافها، ومن ثم تذهب الحرب إليها، دون أن تذهب هي إلى الحرب، وهذا من أصعب المواقف التي قد تواجهها المنطقة العربية في تاريخها الحديث، فهذا نوع جديد من الحروب.
وهنا، أمام دوائر الخطر، التي تتسع يوما بعد آخر، ولا أحد يضمن عدم الانزلاق نحو خطر الحروب العبثية، أستطيع القول إن دائرة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة، ومؤسساتها الإنسانية والقانونية، لم تستطع جميعا كسر دائرة الخطر، وإيقاف الحرب الدائرة منذ فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد جرت محاولات عديدة داخل مجلس الأمن، لكنه لم ينجح في القيام بدوره المنوط به في حفظ السلم والأمن الدوليين، فقد كان الفيتو الأمريكي سيفا قاطعا يمنع أي تحرك نحو إيقاف الحرب، لأهداف معلومة بالضرورة، وأخرى مجهولة، بالضرورة أيضا.
الإقليم بات يسير في أنفاق من المجهول، نظام عالمي لم يعد مواكبا لتفاصيل اللحظة، ميراث القطب الأوحد لا يزال يحكم فلسفة هذا النظام في التعامل مع شعوب العالم، ضاقت الخرائط على سكانها، غزة باتت دليلا على هذا الضيق، المساحة صغيرة (365 كم)، يعيش عليها 2.3 مليون نسمة، الأكثف عددا في العالم.
تداخلت دوائر الخطر في البحر والبر والجو، على مساحات شاسعة.
إذن الحرب على غزة حركت المياه في المحيطات الراكدة.
لا شك أن عجز النظام الدولي عن إيقاف الحرب، استدعى تدخلا قضائيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا، وهي واحدة من المؤسسات الست للأمم المتحدة، وذراعها القضائية والقانونية، وأحكامها غير قابلة للاستئناف، وأي دولة أو نظام تحكم عليه تصبح وصمة لا يمكن الفكاك منها، حتى لو لم تكن المحكمة لديها أدوات تنفيذ، فإن الحكم يظل موجودا، ويطبق حالما توافرت الظروف، ومن ثم فإن الدعوى المقامة من دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية باتت تشكل كابوسا يطارد أعضاء الحكومة الإسرائيلية، فللمرة الأولى تمثل إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بنفسها، فقد رفضت في السابق المثول أمام ذات المحكمة التي حكمت عام 2004 بعدم شرعية الجدار الفاصل في الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تعترف بتنفيذ هذا الحكم فإنها باتت توصف بأنها دولة متمردة على القانون الدولي.
هذه المرة، داخل قاعة محكمة العدل الدولية تابع العالم مواجهة، أطلق عليها خبراء التاريخ، بأنها محاكمة القرن، فتهمة الإبادة الجماعية تهمة ثقيلة، تطال كل مرتكبيها أينما كانوا، وأينما ذهبوا.
ومن المفارقات أن الذي صاغ تشريعات مفهوم الإبادة الجماعية عام 1948 هو المحامي اليهودي رافائيل ليمكين، ردا على مذابح النازي ضد يهود أوروبا.
اللافت للنظر أيضا أن أمريكا وبريطانيا وألمانيا وبعض الدول الأخرى رفضت مبدأ ارتكاب إسرائيل الإبادة الجماعية، وإذا ما حكمت المحكمة بوجود هذه الجريمة، وفقا للوثائق التي قدمتها جنوب أفريقيا، فإن ذلك سوف يُعجّل من تهشيم واجهة النظام الدولي الحالي، الذي تأسس عام 1945، فالنظام الدبلوماسي والإعلامي قد يتأثر بما يسفر عن حكم لهذه المحكمة، بل ربما يكون هذا الحكم هو الدائرة الأكثر خطرا، لا سيما أن الحكم يأتي وسط أمواج استقطابية بين الاتجاهات الأربعة للعالم.
الكاتب: رئيس تحرير الأهرام العربي
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة