رحيل برناردو بيرتولوتشي يطوي 50 عاما من السينما المثيرة للجدل
صانع الأفلام الإيطالي برناردو بيرتولوتشي رفض الدخول في لعبة شباك التذاكر بالسينما الأمريكية، واستطاع بأسلوبه أن يغري كبار نجومها.
على مدار نصف قرن بالتمام والكمال، امتدت التجربة الفنية لصانع الأفلام الإيطالي برناردو بيرتولوتشي، الذي رحل عن عالمنا، الإثنين 26 نوفمبر/ الجاري، حيث بدأها في عام 1962 بإخراج فيلم "The Grim Reape"، وأنهاها في عام 2012، بفيلمه "Me and You"، الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي الـ65.
وما بين هذين الفيلمين، كان بيرتولوتشي، المخرج وكاتب السيناريو، صاحب تجربة سينمائية أثارت كثيراً من الجدل، وكثيراً من اهتمام النقاد وإشاداتهم، وكذلك حالة من التذبذب فيما يخص شباك التذاكر.
الفتى الذي حلم أن يكون شاعراً مثل والده "أتيتيو"، دخل إلى السينما عبر بوابة شاعر ومخرج آخر، هو المخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني، وقد جمعتهما شراكة فنية وثقافية وفكرية وسياسية وإنسانية أيضاً، فوقف إلى جانب الأخير عام 1961 في تجربته السينمائية الأولى في فيلم Accattone، قبل أن يعود بيرتولوتشي بعد عام ليخوض تجربته الإخراجية الخاصة في الفيلم الروائي The Grim Reaper، الذي كتبه بازوليني.
وسواء في بيته أو من خلال صداقته مع بازوليني، كانت ملامح بيرتولوتشي الفكرية والفنية تتشكل وسط بيئة مثقفة تميل إلى التغيير ورفض الاستكانة والركود، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في تجربة الشاب العشريني الذي سرعان ما صار واحداً من الأسماء التي تصدرت مشهد السينما الإيطالية خلال العقود الـ5 الأخيرة، كما انعكس تأثير هذه البيئة في خياراته كمخرج، إذ ركز في كثير من أفلامه على السياسة، ولاسيما عداء الفاشية، والتبشير بثقافة ما بعد الحرب، ومناصرة الشيوعية والطبقات الكادحة والوسطى.
وفي ثاني أفلامه (Before The Revolution 1964)، قدم بيرتولوتشي حكاية شاب ينخرط بالعمل مع الحزب الشيوعي، ويقاوم قيم البرجوازية التي تمثلها صديقته، قبل أن تتعقد حياته مع دخول عمته الجميلة إليها، وانتحار صديقه المتأثر بأفكار الشيوعية أيضاً.
وفي عام 1970، روى بيرتولوتشي في فيلمه "The Spider’s Stratagem"، قصة رجل عاد إلى مسرح قتل والده المعروف بوصفه بطلاً مناهضاً للفاشية، وهناك يصطدم الرجل بحقائق متناقضة عن مقتل والده، بين من يقول إن الأب قُتل نتيجة وشاية خائن، وآخر يرى أنه قتل بسبب جُبنه، وأرجعت وفاته إلى الفاشيين المجهولين، ليخلص الرجل في النهاية إلى أن والده سواء كان قُتل بسبب الخيانة أو الجبن فقد أصبح بطلاً، وما من داع للسعي خلف الحقيقة، فالناس تحتاج إلى أسطورة.
عاد بيرتولوتشي في العام نفسه ليقدم فيلمه "The Conformist"، عن رواية بنفس العنوان من تأليف ألبيرتو مورافيا، تناول فيه حكاية رجل إيطالي ضعيف الإرادة، عاش طفولة غير مستقرة نفسياً قبل أن يصبح فاشياً، ويُكَلف بمهمة اغتيال معلمه القديم، اليساري والمعارض السياسي المنفي في باريس.
وفي عام 1976، ينفذ بيرتولوتشي مشروعه الطموح فيلم 1900، وفيه يقدم حكاية ملحمية لرجلين ينتميان إلى طبقتين اجتماعيتين مختلفين، وذلك خلال الاضطرابات السياسية التي وقعت في إيطاليا خلال النصف الأول من القرن العشرين، ويستعرض الفيلم كيف دعم الفلاحون الشيوعية في وجه صعود الفاشية، وقد وصف الفيلم وقتها بأنه "أكبر فيلم رأسمالي مناهض للرأسمالية".
أما في فيلمه "The Last Emperor"، عام 1987، والحائز على تسع جوائز أوسكار في عام 1988، فيتتبع بيرتولوتشي بطريقة الفلاش باك، حياة آخر حاكم لأسرة تشينغ الصينية، خلال السنوات الممتدة من العام 1908 إلى 1967، حيث نرى خلالها الإمبراطور الشاب، الذي يتولى الحكم وهو في سن الـ3 من عمره، قبل أن يجبر على التنازل عن العرش مع إعلان الصين جمهورية، وصولاً إلى عمله بُستانياً في الدولة، متأثراً بتعاليم الشيوعية.
وعبر هذا الفيلم عزز بيرتولوتشي مكانته في هوليوود، والتي كان أرسى حضوره فيها قبل 15 عاماً عبر فيلم "Last Tango in Paris".
انطلاقاً من الساحة السينمائية الإيطالية وصولاً إلى هوليوود، ظل بيرتولوتشي يراهن على معتقداته الفكرية وطموحاته، بتقديم سينما “كالكاتدرائية التي نذهب جميعاً إليها لنحلم معاً"، على حد تعبيره عندما تسلم جائزة نقابة المخرجين الأمريكية عن فيلمه "الإمبراطور الأخير".
ومتسلحاً بإيمانه بذلك، رفض بيرتولوتشي الدخول في لعبة شباك التذاكر في السينما الأمريكية واشتراطاتها، بل واستطاع أن يغري بأسلوبه السينمائي كبار نجومها، كما كان الحال مع النجم الشهير مارلون براندو، الذي تحمس للعمل معه بعد أن شاهد فيلمه "The Conformist"، في عام 1970، فوقف بعد عامين أمام كاميراته في الفيلم المثير للجدل "Last Tango in Paris"، ويتفق الكثيرون أن الفيلم ذاته، أي "The Conformist"، ألهم عدة تجارب سينمائية في هوليوود، منها فيلم "The Godfather".
تطغى العلاقات العاطفية على كثير من أفلام بيرتولوتشي، وقد تجاوز في عدد منها حدود الجرأة المتعارف عليه في كل وقت من الأوقات، ووسط أبطالها سنجد من يعيش أزمات نفسية تنعكس في خياراته الحياتية وسلوكه، ولاسيما الجنسي، لكن الإثارة الجنسية لا تبدو في كثير من هذه الأفلام هدفاً بحد ذاته، وإنما موضوعاً للنقاش، وخصوصاً أنه يقدمها على خلفية درامية سياسية.
الإشادة النقدية التي حظيت بها أفلام بيرتولوتشي لم تنعكس على شباك التذاكر، ولاسيما في فيلمه 1900، ولكنها تبقى خياره الفني، حيث قال في حوار صحفي: "عندما يتعلق الأمر بالسينما التجارية، أشعر بسعادة غامرة أنني من قبيلة أخرى".