هجوم أنصار ترامب على الكابيتول -أقدم ديمقراطيات العالم- يشبه إلى حد ما هجوم مجموعة من العراقيين على المتحف العراقي وسلبه ونهبه.
مثيرا بذلك ضحك جورج بوش الابن وسخريته، وهو يراقب المشهد من شاشات التلفزيون تمامًا كما كان ترامب يراقب مشهد غزو أنصاره مبنى الكونجرس الأمريكي، ولو كان الرئيس العراقي صدام حسين حيّا لكان استمتع بمراقبة هذا المشهد الأمريكي المثير، وهذه الأحداث الدرامية تُثبت أن التاريخ لا يعبأ بالأفراد ويحتفظ بدوره المخادع والماكر.
في خضم فصول ملهاة المسرحية ومأساتها الشكسبيرية، لم تتمكن تعليقات النشطاء على "السوشال ميديا" من السكوت أو الاكتفاء بالفرجة، هاشتاق عراقي طريف يعلق "#ترامب_ما ينطيها" أي لا يتخلى عن السلطة مثل حكّام العراق، ورسالة مليئة بالتهكم تقول: "ماذا لو قرر العراق إرسال قواته الجوية والبرية والبحرية لإنقاذ عرش أمريكا وإرساء الديمقراطية في الدولة الأعظم على مرّ التاريخ، وبذلك نردُ الدين لأصدقائنا الذين عبروا القارات لأجلنا ووضعوا أفضل أسس ديمقراطية للنهب والفساد والظلم على مرّ تاريخ العراق".
الجديد في الأمر أن تكنولوجيا الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي نقلت لنا تفاصيل ما كان لنا أن نعرفها لو عشنا في عصر آخر. فما حدث في الماضي نقله الرواة وأضافوا إليه من خيالهم، لكننا الآن نستلم المعلومات ونضيف إليها من خيالنا.
التاريخ الأمريكي مليء بالهزات التي عصفت بالديمقراطية، والهجوم البربري المشحون بالغوغائية العنصرية المتطرفة على الكونجرس الأمريكي ليس جديدًا على تاريخ الولايات المتحدة، ففي عام 1834 بعد الانتخابات خرجت الجماهير في فيلادليفيا ودمرت كل شيء؛ لأن نتائجها لم ترض فئة متعصبة. في عام 1834، خلال الاشتباكات بين اليمينيين والديمقراطيين في فيلادلفيا، تم إحراق مبنى سكني بأكمله.
كما أن الحرب الأهلية اندلعت بسبب رفض الولايات الجنوبية قبول نتائج انتخابات عام 1860، أي عندما رفض لينكولن قبول الانفصال الجنوبي. وفي عام 1874 قاتل أكثر من خمسة آلاف رجل في شوارع نيو أورلينز في معركة بين مؤيدي حاكم لويزيانا الجمهوري ويليام كيلوغ، وأنصار الرابطة البيضاء، وهي مجموعة متحالفة مع الديمقراطيين، كان ذلك موسم الأعاصير. وفي 1876 عانى السود قرنًا كاملاً من الإرهاب، وعمل عددٌ من المؤرخين أمثال ريتشارد هوفستاتر ومايكل والاس في كتابهما "العنف الأمريكي: تاريخ وثائقي" عن عمليات منع المهاجرين من التصويت بشكل كامل، وثمة تشابه بين ما تشهده الولايات المتحدة من حالة الانقسام الآن وما شهدته في عام 1919، حين انتشر وباء الإنفلونزا الإسبانية، وعصفت به موجة من التفجيرات المحلية التي أدت إلى حملة قمع منظمة ضد "الشيوعيين" المزعومين، وأثارت مخاوف بروز دولة بوليسية في البلاد، مما أدى إلى موجة من الاحتجاجات العرقية التي وجهت ضد الأقليات من السود والملونين من قبل عصابات من البيض، وحينذاك ظهر وارين هاردينغ رافعًا شعار "دعونا نجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ليصل إلى البيت الأبيض لكنه فشل في انتشال البلاد من العنصرية والانقسام.
أنصار ترامب أرادوا أن يدفعوا البلد إلى العنصرية والانقسام، ولا يخفون رغبتهم في التعبير عن توحشهم وعنصريتهم ورقي جنسهم الأبيض وغيرها من الأفكار اليمينية المتطرفة، إنهم ليسوا سوى خلايا نائمة تبحث عن قائد مُلهم، فوجدته في شخصية ترامب العدوانية والفجّة، مما دفع الرئيس المنتخب جون بايدن إلى القول: "إن صورة الهجوم على الكونجرس الأمريكي لا تمثلنا بل هي غريبة علينا، وأمريكا لا تستطيع العيش بدون صورتها المشرقة". وأصبح خطاب بايدن يركز على التوحيد بعد الانقسام، وتجنب اللغة العدائية، ومداواة الجراح في أمريكا.
في الوقت الراهن نحن أمام الـ71 مليون شخص الذين منحوا أصواتهم لترامب، وهم يمثلون كتلة واسعة من المجتمع الأمريكي، ويرتبطون بشخصيته وسياساته بصورة وثيقة؛ لأنه أرسى خلال فترة حكمه ما يُعرف بـ"الترامبية"، التي لعب من خلالها ترامب على وتر الانقسام في المجتمع الأمريكي، المتعدد الطوائف والأجناس، ليعمق هذه الحالة، وسط تهميش السود والمهاجرين ومغازلة الأمريكيين البيض، وقد رسّخ انعزالية قومية من خلال انتهاك المعايير والأخلاق والقوانين من أجل قلب الديمقراطية نفسها، وظهر سلوك ترامب المراوغ عندما رفض الإفراج عن إقراراته الضريبية، وأقال خمسة مفتشين عامّين من مناصبهم، وبمساعدة المدعي العام ويليام بار الذي أفسد وزارة العدل، كما شجع التجمعات المناصرة له في عام 2016 إلى الاعتداء على وسائل الإعلام التي تعارض حكمه، وكذلك تم إغلاق المجلس التشريعي في ميشيجان مؤقتًا، بعد أن دخل أعضاء المليشيات المسلحة العاصمة للاحتجاج على أمر الولاية بالبقاء في المنزل. وقبل أسبوعين غرد ترامب "ميشيجان محررة!".
لقد أعد ترامب أتباعه بتحذيرات متكررة من تزوير الانتخابات، من دون التأكد من ذلك، مهيئا الأرضية الخصبة لاحتمال حقيقي بأنهم قد يشجبون أي نتيجة يخسر فيها على أنها غير مشروعة، وحقيقة الأمر أن "تزوير التصويت غير موجود فعليا، لكن ترامب كان يكرر أكاذيبه بشأنه لخلق رواية مصممة لتعبئة قاعدته سياسيا وإيجاد أساس للطعن في نتائج الانتخابات في حالة خسارته، وهذا ما فتح الأبواب أمام احتمالية نشوب صراع عنيف، خاصة أن ترامب شجع مؤيديه على حمل السلاح"، كما شجع أنصاره على "التخلص من هراء" المتظاهرين، واقترح أنه سيدفع الرسوم القانونية لأتباعه الذين اعتدوا على منتقديه من خلال رفضه نتائج الانتخابات، ومن ثمّ فقد زاد من مخاطر مقاومة الترامبيين المتشددين.
تجسّد ذلك في الجذور العميقة لاستراتيجية ترامب بشأن "تزوير الانتخابات"، التي ظل يرددها في خطاباته وتغريداته في تويتر قبل أن يُغلق حسابه نهائيًا، ويبعث الحماس في نفوس أنصاره "نحن لن نتخلى أبدا.. لن نتنازل أبدًا.. لا يحدث"، و"لن نستسلم أبدا ولن نتنازل أبدا"، هذه الشعارات أيقظت خلايا اليمين المتطرف النائمة من سباتها لتدفعهم إلى مهاجمة الكونجرس.
لكن يبقى السؤال قائمًا: هل سينجح الرئيس المنتخب جو بايدن في معالجة الانقسام في المجتمع الأمريكي؟ وهل سيستجيب أنصار ترامب لدعوات بايدن للتصالح أم أن "الترامبية" سوف تحيا في المجتمع الأمريكي حتى بعد خروج ترامب من الرئاسة؟
أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا بعد سنوات من حكم الرئيس المنتخب وإعادة اللحمة إلى المجتمع الأمريكي الذي وصفه بمداواة جرح أمريكا.
هل تتشابه الغوغاء في أمريكا والعراق وفي العالم أجمع؟ وهل تنتهي ملهاة "الترامبية" بمأساة أكثر مما يعيشه ترامب نفسه من مصير المنبوذ والفج والمعادي للديمقراطية والمحرض على العنف؟ صفات ونعوت لا يمكن التخلص منها ببساطة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة