يهتم الصينيون بكل مناسبات البلدان التي يعيشون فيها، منها الوطنية والدينية والسياسية، ويعملون على تزويد الأسواق بها في إنتاج سريع.
وأنت تتجول في منطقة المدينة العالمية بدبي، يجذب نظرك سوق التنين الصيني، وأمام مدخله كرة أرضية، ذهبية اللون، تنتصب على قاعدة أسمنتية كبيرة، يلتف حولها التنين من الجهات الأربع، فهي ترمز إلى قدرة هذا التنين على الوصول إلى أي بقعة من العالم بالمعنى المعرفي وليس بالمعنى الاستعماري. والصين معروفة باستخدام قوتها الناعمة، القائمة على الاستقلال وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، مما وطّد صورتها الإيجابية في العالم. هكذا يقدم السوق الصيني أيقونته وعلامته عبر أسطورة التنين الصيني. تم تقسيم هذا السوق العملاق إلى قسمين، الرأس، والجسد، يحتوي الرأس على بنايات ذات طابقين، والجسد والذيل على بنايات بطابق واحد تمتد مجتمعة على شكل حجم التنين. وسوق التنين الصيني، وللتذكير، هو أكبر سوق صيني خارج الصين، يبهرك بكل فنونه، وأشكالها في الزهور، واللوحات، والأثاث وألعاب الأطفال والتصميمات والديكورات الأخرى.
يمكن القول، إن الإمارات تُشكل نموذجاً يُحتذى به في رسم العلاقات الصينية العربية، لأنها تنطلق من الاقتصاد ومن ثم تنتقل إلى الثقافة والتراث والمعرفة واللغة
يهتم الصينيون بكل مناسبات البلدان التي يعيشون فيها؛ منها الوطنية والدينية والسياسية، ويعملون على تزويد الأسواق بها في إنتاج سريع لا مثيل له، يعرفون أشكال أعلام العالم برمته، ويحفظون عن ظهر قلب صور الرؤساء والملوك، وإذا ما حانت المناسبة، تراهم يملؤون الأسواق بها، بأسعار مناسبة، وبعيداً عن الدافع التجاري، هنا انغماس وانتباه للآخرين وثقافاتهم. يمكن أن نجد ثقافة الصين كاملة في هذا السوق، بكل روحها وسرعتها وفاعليتها، فالبضائع الصينية تُجسد ثقافتها، بما تحويه من فن وتراث وطعام، وحرف يدوية، ورياضات، وغيرها من النشاطات التي تزخر بها الثقافة والحضارة الصينية إلى المنطقة. كما يشهد السوق احتفالات كبيرة بمناسبة السنة القمرية الصينية الجديدة، في حفل ضخم يحضره نجوم الغناء الصيني، إضافة إلى الفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية والتاريخية.
ويكشف سوق التنين عن طريقة حياة كاملة يتمّتع بها الصينيون، وهم منسجمون مع الثقافة العربية، لأن الثقافتين تتشابهان في عراقتهما وقدمهما.
إن التبادلات التجارية ما لم تكن مصحوبة بالتبادل الثقافي بين الصين كقارة واسعة، وبين العالم العربي، لا قيمة لها إلا بتكامل الجانبين التجاري والثقافي. وهذا ما تسعى الإمارات إلى القيام به. والمعروف إن العلاقة بين الثقافتين تضرب جذورها في التاريخ، فقبل أكثر من ألفي عام، ربط "طريق الحرير" القديم الصين بالدول العربية. ومن اشعاعات تراثنا العربي أنه يؤكد على طلب العلم ولو كان في الصين.
لكن لو صارحنا أنفسنا، لوجدنا أننا نركز على البضائع دون الثقافة، بسبب الظروف المفروضة، فلا تزال اللغة الصينية شبه مجهولة لدينا، إذا لم تكن منعدمة، والسبب واضح، وهذا ما يُشكل عائقاً في انتشار النفوذ الصيني الثقافي في عالمنا العربي، لأن هذه اللغة تعتمد على الرموز والرسوم، وليس على الأبجدية، لذا تكون كتابتها صعبة للغاية. لكن اللغة الصينية رغم ذلك، ليست من اللغات المهددة بالانقراض لأن التطور الصيني يسجل حواراً قوياً في كل مكان. والسبب الثاني، هو خضوعنا لمركزية الثقافة الغربية والأوروبية المهيمنة. وهناك سبب ثالث، أن الصين دعت في عام 2013 إلى إحياء طريق الحرير القديمة، بما فيها البحرية، والتي يشغل فيه العالم العربي حيزاً مهماً في تنفيذها، لكن غالبية البلدان العربية لم تمد يدها إلى هذه الدعوة، أو نكصت عنه، وولت وجهتها إلى الغرب.
إذا ما شئنا التركيز على العلاقات الثقافية بين الصين وبين العالم العربي، فلا بد من طرح الأسئلة التالية: أين الندوات والمؤتمرات التي تُنظّم بين الثقافتين؟ أين التعاون بين الجامعات الصينية والعربية؟ أين الأبحاث المتخصصة؟ أين البرامج الثقافية بين الصين والبلدان العربية؟
هناك إشكالية في علاقتنا مع العملاق الصيني، وبدون حل هذه الأشكالية لا يمكن أن نتقدم في هذا المجال. قد ظلت الصين غائبة عن منطقنا العربية طويلاً، بسبب سياساتنا التي تجاهلت هذا العملاق الآسيوي الجبار. نحن لم نكتشف الصين إلا مؤخراً عندما أصبحت قوة اقتصادية عظمى. بينما يُفترض بنا أن نقرأ نظرة الصين إلى الوطن العربي، وتغيير نظرتهم لأننا لسنا مجرد رقم في رؤيتهم الجيو اقتصادية، كما يقول قاموس السياسة، بل يجب التركيز على الرؤية الجيو ثقافية. نحن أهملنا الأدب الصيني، فكم رواية صينية مترجمة إلى اللغة العربية؟ تكاد تكون على عدد أصابع اليدين. كم مترجماً لدينا من اللغة الصينية إلى العربية؟ أين معاهد تعليم اللغة الصينية في العالم العربي؟
هل عملنا على إرسال البعثات لدراسة الصين وثقافتها؟ هناك محاولات خجولة بطبيعة الحال، ولكنها ليست كافية للتعامل مع هذا العملاق. لا نريد أن نتحول إلى سوق للمنتجات الصينية، كما لا نريد الصين أن تعتبرنا مصدر طاقة فقط. وهذا لا يعني أن نهمل التبادل التجاري والاستثمار بين الصين والعالم العربي، لأنه الشريان الحيوي والمفتاح الرئيسي لتعزيز الحوار بين الحضارات والجمع بين التقاليد والتراث والحداثة. لا يمكن أن ننكر أن الصين أصبحت اليوم الشريك التجاري الثاني بعد الاتحاد الأوروبي مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومن المرجح أن تتفوّق على الاتحاد الأوروبي خلال السنوات المقبلة. لذا ينبغي ترسيخ موقعنا في شبكة الاتصالات القائمة وإلا سنكون في معزل عن التطور الذي تشهده الصين.
والصين ليست طارئة في تاريخنا العربي، لو ألقينا نظرة، لوجدنا أن الشراكة الصينية والتجارية والبحرية بيننا تعود من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي، وأول إرساء لهذه العلاقة قامت في عهد الخليفة عثمان بن عفان عندما أرسل وفوداً بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقاص إلى أباطرة أسرة تانغ الصينية الحاكمة في تشانغان، وتمكنوا من بناء أول مسجد في مدينة غوانغتشو. وقد حافظ العرب خلال العصر الأموي على علاقات مستمرة مع أباطرة الصين، ثم ازدهر التبادل التجاري بيننا في العصر العباسي. ويمكن أن نقرأ دراسة الصين ونقل تجربتها في كتابات أبي حيان التوحيدي والجاحظ والقزويني، وكذلك المؤرخين والرحالة العرب، ابن بطوطة والغرناطي. لذا فهذه العلاقة ليست وليدة الأمس، فملماذا أهملناها؟
تسير الإمارات على الطريق الصحيح في تنمية العلاقات الثقافية مع الصين، وبشكل عملي، فقد شهد معرض أبوظبي للكتاب العام الفائت استضافة وفدٍ رفيع المستوى من الكتاب والمبدعين الصينيين، وتم إطلاق مكتبة مركز الشيخ زايد بجامعة الدراسات الأجنبية ببكين أيضاً من أجل التعرف على الثقافة العربية وتعزيز التبادل الثقافي بين البلدين، كما تعد رأس السنة الصينية في شهر يناير من كل عام حدثاً رئيسياً في الأجندة الثقافية الإماراتية. ولعل افتتاح أول مدرسة دولية صينية في دبي العام الماضي، مثال بارز على هذا التعاون الثقافي. إضافة إلى مشاريع ترجمة الأدب الإماراتي إلى اللغة الصينية، وابتعاث الطلبة الإماراتيين إلى الصين لتعلّم اللغة الصينية.
على أي حال، يمكن القول، إن الإمارات تشكل نموذجاً يُحتذى به في رسم العلاقات الصينية العربية، لأنها تنطلق من الاقتصاد ومن ثم تنتقل إلى الثقافة والتراث والمعرفة واللغة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة