واقع الأزمة اليوم وما فرضته من ضرورة التباعد الاجتماعي والالتزام بالتعليمات الاحترازية يفرض رؤية دينية معاصرة
الاجتهاد الشرعي ميزة الدين الإسلامي، فهو تشريع يراد منه نقل حيثيات النظر الفقهي من الجمود إلى التجديد، ومن التقليد إلى التطوير، ومن حدود النص إلى واقع المكان والزمان وحال الإنسان، ما يعني أن الاجتهاد الشرعي يفتح الباب للبحث في القضايا المعاصرة، والتنقيب عن الحكم الملائم لها.
إن واقع الأزمة اليوم، وما فرضته من ضرورة التباعد الاجتماعي، والالتزام بالتعليمات الاحترازية، وما خلفته من آثار اقتصادية، يفرض رؤية دينية معاصرة، تواكب الإسهامات الرسمية في محاصرة هذا الوباء، من خلال أعمال الاجتهاد بتطبيق كل التعليمات الوقائية في مسائل العبادات؛ كخطبة الجمعة والعيد وصلاة الجماعة، كما يفرض تقديم رؤى واقعية في التقليل من الآثار الاقتصادية لهذه الجائحة، وتسوية العقود المتعثرة، والالتزامات المبرمة وفق قراءة دقيقة لأحكام الجائحة عند الفقهاء، والاستعانة بالنظريات القانونية؛ كنظرية الظروف الطارئة أو القوة القاهرة.
أما في مسائل العبادات، فقد قررت الشريعة العديد من القواعد الفقهية في ظل هذه ظروف، مثل قاعدة، "لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة "والأخذ بالرخص أولى من العزيمة حفظاً للنفوس"، وقاعدة "للإمام تقييد المباح مراعاة للمصلحة"، وغيرها من القواعد، التي تدل على أهمية الأخذ بكل الطرق الاحترازية، من إغلاق المساجد، وفرض حظر التجوال، وكل ما يساهم في التصدي لهذا الوباء.
كما أن الاجتهاد الشرعي، يفتح باباً للبحث في كيفية اتخاذ الإجراءات الاحترازية؛ خلال فترة ما بعد إغلاق المساجد، أي كل ما يندرج في إطار إجراءات التباعد الاجتماعي؛ سواء بتباعد الصفوف، أو تجنب الازدحام، وغيرها من الإجراءات الوقائية. وقد تقرر في الشريعة أنه لا واجب مع العجز، أي أن الواجبات والشروط تسقط بالعجز عنها، والتكليف بحسب الوسع، فكل ما أوجبه الله تعالى ورسوله، أو جعله شرطاً للعبادة، أو ركنا فيها، أو وقف صحتها عليه، هو مقيد بحال القدرة أما في حال العجز، فهو غير مقدور عليه، ولا مأمور به، أي لا تتوقف صحة العبادة عليه.
في مسائل العبادات، فقد قررت الشريعة العديد من القواعد الفقهية في ظل هذه ظروف، مثل قاعدة، "لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسير".
وترتب عن هذه الأزمة بعض الآثار الاقتصادية، من أبرزها، الإخلال في الالتزامات التعاقدية بين الأطراف المتعاقدة، ومعلوم أن "العقد شريعة المتعاقدين"، ما يعني أنه لا يجوز لأحد، الاستقلال بطريقة منفردة؛ في إلغاء أو تعديل العقد، دون الآخر. ولكن الالتزام بهذه القاعدة في ظل الظروف الاستثنائية قد يجعل تنفيذها مرهقاً أو مضراً؛ بأحد المتعاقدين. وهو ما يستدعي الاستعانة بنظرية "الظروف الطارئة" وهي رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، حيث يعالج كل حالة بحسب ظروفها الخاصة. وفي بعض الأحيان يستحيل أن ينفذ العقد بالأساس، فيرد العقد إلى نظرية "القوة القاهرة" التي تحكم بفسخه وانقضاء الالتزام به.
وهذه النظريات السالفة، لها في الفقه الإسلامي نظائر ودوائر مشتركة، فقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بوضع الجوائح، وهي ما يسميها الفقهاء، "أحكام الجائحة"، ويطلق عليها ابن رشد اسم "أحكام الطوارئ"، وقد توسعت المالكية في أحكام ضمان جائحة الثمار، ولهم فيها كلام نفيس، يعد منطلقاً للبحث في تطوير نظرية "الظروف الطارئة" و"القوة القاهرة"، كما أن الحنفية لهم رؤية بارعة في مسألة "العذر الطارئ" للمستأجر، فيجوز عندهم فسخ عقد الإجارة للعذر الطارئ على المستأجر، مثل أن يستأجر دكاناً؛ ليتجر به، فيحترق متاعه أو يسرق.
كما أن الأزمة أعادت الحديث عن مسألة التضخم في العملة والديون، حيث يرى العلامة عبدالله بن بيه، أن التضخم يقاس في سياق الحكم والتعامل مع الجائحة، وذلك لأن أحد الطرفين يتمتع بأفضل ما بذل، والآخر متضرر مما حصل، وهو رأي يتميز بعقلانية الطرح، ويحاكي الواقع؛ بعكس قرار مجمع الفقه الإسلامي، الذي يعتبر أن الديون تقضي بأمثالها في التضخم.
إن هذه الأزمة تثير تساؤلات كثيرة، تحتاج إلى نظر فقهي سديد، واجتهاد شرعي محكم، ينظر إلى مصلحة الأوطان والإنسان، ويغدو بلسما للمتضررين، ويعطي أحكاماً تنطبق على الواقع المعاصر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة