أثر التغير المناخي المرتقب على اقتصاديات دول العالم
تشغل اليوم قضية تغير المناخ والارتفاع غير المنضبط في معدل درجة الحرارة العالم كله، بفعل تداعياتها المتوقعة على الاقتصاديات العالمية.
ارتبط النمو الاقتصادي العالمي على مدى العقود الخمسة الماضية بتدهور سريع في البيئة العالمية، حيث لم يكن هناك اهتمام في الفكر الاقتصادي بقضايا استنزاف الموارد الطبيعية.
وتشغل اليوم قضية تغير المناخ والارتفاع غير المنضبط في معدل درجة الحرارة العالم كله، بفعل تداعياتها المتوقعة على الاقتصاديات العالمية.
فكل الأزمات التي يعانيها الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، يؤكد إدوارد ويلسون، عالم الأحياء الأمريكي، أنها في الأصل متصلة بالبيئة، كما تؤكد العديد من الدراسات أن الانبعاثات الغازية الناتجة عن النشاط البشري في المجالات المختلفة لاستخدام الطاقة أدت إلى احتباس حراري عالمي غير مسبوق، أثرت على كوكب الأرض.
ويُعرف العلماء تغير المناخ بأنه "أي تغير مؤثر وطويل المدى يحدث لمنطقة معينة في معدل حالة الطقس، والتي تشمل درجات الحرارة ومعدل تساقط الأمطار وحالة الرياح".
وتحدث التغيرات بسبب العمليات الديناميكية للأرض كالبراكين، أو بسبب قوى خارجية كالتغير في شدة أشعة الشمس أو سقوط النيازك الكبيرة، أو بسبب نشاط الإنسان"، ويؤكد قطاع واسع من العلماء أن النشاطات البشرية حالياً هي السبب الرئيسي لارتفاع درجة حرارة الأرض.
وحدوث ارتفاع متزايد في درجات الحرارة سيزيد من الاضطرابات المناخية خلال الـ30 عاما المقبلة، ومن ثم سيزيد ذلك الضغوطات على طلب الغذاء والمياه، مع ازدياد موجات الهجرة.
ولا يمكن استبعاد احتمالية حدوث احتباس حراري كارثي في وقت لاحق، قد ينتج عنه ذوبان القمم الجليدية في "جرينلاند".
كما يُتوقع ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون بشكل مطرد خلال السنوات الـ20 المقبلة، وعلى الرغم من أن الحكومات قدمت في مؤتمر باريس للمناخ 2015 مجموعة من التعهدات الهامة لمواجهة هذه الأزمة، إلا أنه لم يتم الالتزام بهذه التعهدات.
عدم الالتزام كان على وجه الخصوص تعهدات متعلقة بالوقود الأحفوري ومكافحة آثاره، إما عن طريق استثمارات ضخمة في مجال التقاط الكربون وتخزينه، أو عن طريق الهندسة الجيولوجية.
وأصبحت قضية تغير المناخ أكثر إلحاحاً، وأحد أهم الأخطار التي تواجه البشرية في الوقت الراهن، خصوصاً مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يوليو/تموز 2017 انسحاب بلاده من اتفاقية باريس لمحاربة تغيرات المناخ، الأمر الذي وعد به خلال حملته الانتخابية تحت شعار "الدفاع عن الوظائف الأمريكية".
ويعتقد ترامب أن الاتفاق لا يصب في صالح واشنطن، حيث يفرض قيودا مالية واقتصادية شديدة عليها.
من جهته تعهد الرئيس البرازيلي المنتخب "جايير بولسونارو" بفتح غابة الأمازون أمام الاستغلال التجاري، مما سيشكل خطراً على صحة الكرة الأرضية برمتها، لا سيما أن ضخامة حجم غابات الأمازون التي تبلغ مساحتها ما يقرب من 600 مليون هكتار تجعل لأي تغيرات بسيطة في نظامها البيئي أثراً مهماً على دورة الكربون في الغلاف الجوي.
في المقابل، يمكن وصف استجابة باقي الدول الاقتصادية الكبرى والدول النامية بالمحدودة، فمثلاً تروج الهند والصين -رغم إعدادهما برامج لمجابهة تغير المناخ على المستوى القومي- لمقولة أن محاولات إلزامهما بخفض انبعاثاتهما إنما تهدف إلى وأد نموهما الاقتصادي.
- مواقف دولية متعارضة
في هذا السياق العام، يمكن القول إن المواقف الدولية بشأن أزمة تغير المناخ متباينة ومتعارضة، ففي حين تتسبب الاقتصاديات الكبرى الـ17 في نحو 80% من انبعاثات غازات الكربون في العالم، فإن هذه الدول تروج أن الدول النامية هي التي ستتسبب في هذه النسبة مستقبليا.
أما الاقتصاديات النامية، وفي الصدارة منها مجموعة الدول الأفريقية، فترى أن الدول المتقدمة عليها أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية في قضايا تغير المناخ، بأن تخفض من انبعاثاتها، وترى الدول النامية أن اقتصاداتها يجب أن تأخذ فرصتها في النمو.
والواقع، أن أزمة التغيرات المناخية لا تقتصر فقط على ارتفاع درجة حرارة الكوكب والتلوث، ولكنها وثيقة الصلة بمشاكل نقص المياه، وتناقص الأراضي الصالحة للزراعة، وخطر انتشار الأوبئة، والفقر المزمن في بقاع معينة في العالم.
- خسائر متوقعة
وتشير تقارير "البنك الدولي" إلى أن درجة حرارة الأرض قد ترتفع 4 درجات مئوية في نهاية القرن الجاري، الأمر الذي ستنتج عنه آثار مدمرة على الزراعة والموارد المائية وصحة البشر، وسيكون الفقراء أشد المتضررين من هذه الآثار، التي لن تستثني أياً من مناطق العالم.
وتؤكد هذه التقارير أنه إذا ارتفعت حرارة العالم درجتين مئويتين فقط، وهذا متوقع في العقود الثلاث المقبلة، فقد نشهد نقصاً في الأغذية على نطاق واسع، وموجات حرارة غير مسبوقة، وعواصف أكثر شدة.
أما الوجه الأكثر قسوة للتغيرات المناخية انعكاساتها السلبية على المصالح الاقتصادية، والخلل الخطير في توزيع الموارد داخل الدول وفيما بينها.
وقد عبر جوردن بروان، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، عن هذا التوجه قائلاً "إن التغير المناخي يمثل تحدياً غير مسبوق للبشرية، ولكن هناك حل في متناول يدنا، وهو حل ستكون له فوائد اقتصادية ضخمة في الحاضر، وسيحمي أيضا مستقبل أولادنا وأحفادنا".
وأشار بروان إلى تقرير سير "نيكولاس إستيرن" أستاذ المالية العامة والتنمية في بريطانيا، المنشور في 2006 تحت عنوان "استعراض لاقتصاديات تغير المناخ".
وورد فيه أن استمرار معدل ارتفاع حرارة الأرض كما هو يتسبب في خسائر تقدر ما بين 5% و20% من إجمالي الناتج القومي العالمي، وهي خسائر أكبر من التي تسببت فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية، إضافة إلى تلك التي ترتبت على مرحلة الكساد الاقتصادي الكبير في القرن العشرين.
من جهته، حذر محافظ "بنك إنجلترا المركزي" مارك كارني، في أكتوبر 2015 في خطاب مطول، من آثار التغير المناخي على الاقتصاد والاستقرار المالي العالمي، وحض خبراء الاقتصاد على التحرك في شكل سريع لمحاولة احتواء الضرر الاقتصادي، ولو جاء ذلك التحرك متأخراً.
- مأساة في الأفق
ووصف كارني الضرر الذي يسببه التغير المناخي على الاقتصاد بـ"مأساة في الأفق"، مؤكداً أن التكاليف المترتبة على التغيرات المناخية تتجاوز توقعات السلطات التكنوقراطية، والتي لا تأخذ في الحسبان استنزاف الموارد المشتركة من قبل الأفراد الذين يتشاركون فيها، وفقا للمصلحة الذاتية لكل منهم، على الرغم من إدراكهم أن استنزاف هذه الموارد يتعارض مع المصلحة المشتركة للمجموعة في المدى الطويل.
من جهتها واجهت الولايات المتحدة مخاطر اقتصادية كبيرة ومتنوعة نتيجة تغير المناخ، ما دفع البيت الأبيض في يونيو 2013 إلى إصدار خطة عمل وطنية لمواجهة التغير المناخي أطلق عليها اسم "خطة عمل الرئيس للمناخ".
وتشير الخطة إلى أن الولايات المتحدة واجهت في 2012 اضطرابات جوية قاسية، مثل إعصار ساندي، وموجات جفاف، وفيضانات، وحرائق غابات كلفت الاقتصاد الأمريكي نحو 100 بليون دولار.
والأرجح أن ثمة تداعيات للتغيير المناخي المحتمل على اقتصاديات الدول، أولها الانعكاس السلبي لظاهرة الاحتباس الحراري على الشرايين الحيوية للاقتصاد العالمي والناتجة عن استغلال مفرط للموارد الطبيعية، في قطاعات الزراعة والصناعة والتشييد، مما أدى في نهاية المطاف إلى التأثير السلبي على النظام المالي العالمي بأكمله.
وثانيهما كبح عمليات النمو الاقتصادي، إذ يقدَّر صندوق النقد الدولي أن مقابل ارتفاع درجة حرارة الأرض 3 درجات مئوية ينخفض معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 2%.
وعلى المدى الطويل، يُتوقع أن يضعف التغير المناخي النشاط الاقتصادي العالمي نتيجة الأضرار المترتبة على قطاعات اقتصادية حيوية مثل الزراعة، والأضرار في الممتلكات والبنى التحتية، وارتفاع تكاليف التأمين، وضعف الإنتاجية، والتهجير.
في سياق متصل، كان للتغيرات المناخية تأثيراً مباشراً، وسلبياً على صناعة السياحة، وهي أحد أهم مصادر الدخل لعدد كبير من الدول، خاصة البلدان العربية حيث تعد مورداً اقتصادياً.
فارتفاع درجة الحرارة في هذه البلدان سيسبب تراجعاً شديداً في مؤشر تصنيفاتها السياحية، وبذلك يمكن أن تتحول المناطق المصنفة سياحياً في الوقت الحالي وفقاً لبعض التقديرات، بين "جيدة" و"ممتازة" إلى تصنيفات تتراوح بين "هامشية" و"غير مواتية" بحلول سنة 2080.
من ناحية أخرى، سيؤثر ابيضاض الشعاب المرجانية -الناتج عن ازدياد معدل درجات الحرارة وحموضة مياه البحر- على اقتصاديات السياحة في بلدان حوض البحر الأحمر، وبالدرجة الأولى مصر والأردن.
كما سيؤثر تآكل الشواطئ وارتفاع مستويات البحار على المراكز السياحية الشاطئية، وبالدرجة الأولي في مصر، تونس، المغرب، سوريا، الأردن، ولبنان، وتمثل السياحة في هذه الدول مصدراً مهماً للعملة الصعبة.
وفي كينيا، كان للتغير البيئي المصاحب لإزالة الغابات تأثير مباشر على السياحة التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد الكيني، وتعد المحميات الطبيعية وما فيها من حياة برية عنصر الجذب الأساسي لهذه الصناعة.
كما أن تأثيرات التغيرات المناخية سينعكس سلباً على البنى التحتية، خاصة في الدول التي تتجاهل أنظمة استخدام الأراضي والتخطيط العمراني فيها المتطلبات الأساسية للتكيف مع تغير المناخ.
فعلى سبيل المثال يقدر أن 75% من المباني والبنى التحتية في بعض دول المنطقة العربية معرضة بشكل مباشر لخطر تأثيرات تغير المناخ، وبالدرجة الأولى ارتفاع مستويات البحار، وتكرار الأيام الحارة، واشتداد العواصف، الأمر الذي يعرض نظم النقل وشبكات المياه، والصرف الصحي، ومحطات توليد الطاقة في خطر شديد.
على صعيد متصل تشير التوقعات إلى أن التغيير المناخي سيزيد من تفاقم العديد من المخاطر مثل أزمة المياه، ونقص الغذاء، ورفع معدلات المخاطر الأمنية والاجتماعية.
كما يؤذي التغير المناخي المحاصيل الزراعية، ويهدد الإنتاج الزراعي العالمي، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ومن ثم إرهاق ميزانيات الدول، وارتفاع معدل التضخم، وهو ما قد يؤثر سلباً على الدخول، ومن ثم على القدرة الشرائية والاستهلاك.
لذلك، فإنه إذا لم يتخذ العالم إجراءات فاعلة حيال أزمة التغييرات المناخية المتوقعة فإن كوكب الأرض معرض لارتفاع درجة حرارته في شكل يؤدي إلى وقوع كوارث متنوعة من شأنها أن تتسبب في تراجع مكاسب التنمية عقوداً إلى الوراء، ناهيك عن أن قضية التغيرات المناخية باتت محوراً رئيسياً في تحديد مستقبل كل الدول والمجتمعات في القرن الحالي.
خلاصة القول، أن التعامل الناجح مع قضية التغييرات المناخية يتطلب اعتماد رؤية شاملة، تأخذ في الاعتبار الأبعاد المتشابكة، والمترامية لتأثيرات التغيرات المناخية، وفي الصدارة منها ضرورة تحول العالم إلى اقتصاد من نوع جديد، يعتمد على موارد جديدة للطاقة، وتكنولوجيا جديدة في الصناعة، وممارسات مختلفة في الاستهلاك والحياة، وتوجه أكبر نحو الاقتصادين الأخضر والأزرق.