لماذا لا يكون البحر الأحمر منطقة للرخاء السياحي المشترك بعد تخطيط الحدود البحرية بين المملكة ومصر
لسنوات طويلة ناديت بأن تكون مصر دولة طبيعية، وكان معنى ذلك أولا أن تنبذ الدولة كل ما هو استثنائي، وكل ما هو مخصوص نتصور أنه لا يناسب أحدا إلا المصريين، وثانيها أن تكون الدولة جزءا من عصرها بما فيه من تكنولوجيا، وما فيه من تقاليد وأعراف تحدد ما يجوز وما لا يجوز، ببساطة ألا تكون دولتنا غريبة بين الدول حيث كانت لدينا أمور عجيبة حددتها وتمسكت بها أزمان أكثر عجبا.
لماذا لا يكون البحر الأحمر منطقة للرخاء السياحي المشترك بعد تخطيط الحدود البحرية بين المملكة ومصر التي تعين المنطقة الاقتصادية الخالصة، والجزر الخاصة بكل دولة. هذا ليس محض خيال فمشروع "نيوم" عابر للحدود والدول، ولكن المشروعات تحتاج إلى أن تظل دوما في الخيال العام ومسرحا للمبادرة الفردية.
واحد من أمور العجب كان ما نص عليه الدستور المصري أن يشغل ٥٠٪ على الأقل من المجالس المنتخبة عمال وفلاحون؛ ولم يشفع أبدا أنه لم يتفق أحد على تعريف من هو "العامل أو الفلاح"؛ كل ما حدث أن المشرعين تواضعوا على أن عمال مصر وفلاحيها يشكلون الأغلبية التي عانت كثيرا في العهود البائدة الاستعمارية. لم يهتم أحد بأن جميع المصريين عانوا من هذه الفترات الصعبة، ولم يرد في بال أحد أن العمال ليسوا أغلبية وأن العاملين في مجال التجارة والخدمات أكثر عددا، وفي قلب الموضوع فإن أحدا لم يبرهن على أن العمال والفلاحين سوف يكونون دون غيرهم أكثر قدرة على التشريع المناسب للأمة.
لم يكن ذلك الموضوع وحده هو "غير الطبيعي" والذي لم يكن له مثيل بين دول العالم الأخرى؛ فقد كان ولا يزال نظام "الثانوية العامة" من النظم الاستثنائية التي تخلت عنها معظم دول العالم المعاصر. وفي وقت من الأوقات كانت "الصحافة القومية" من الحالات غير الطبيعية، فالأصل أن كل من يعبرون عن الشعب المصري والدولة المصرية من المؤمنين والمخلصين لها لا فرق في ذلك بين الصحافة أو الإعلام "القومي" الذي تملكه الحكومة، أو ذلك الخاص أو الذي جرى تعريفه بأنه "مستقل". "العملة المصرية" ولأزمنة طويلة لم يكن يتم تحديد ثمنها وفقا لحركة عرض وطلب العملات الدولية وإنما وفق سعر كانت تحدده الدولة وفي أحيان كانت تضع له عدة أسعار واحدا منها من البنك المركزي، وواحدا آخر كانت تحدده السوق السوداء، وواحدا ثالثا خاصا بالاستيراد، ورابعا للتصدير، وخامسا لحاملي بطاقات الائتمان، وسادسا للمسافرين إلى الخارج، وسابعا للعائدين منه. الخلاصة كان هناك الكثير مما هو غير طبيعي واستثنائي، وظلت دعوتي قائمة لكي تكون "مصر دولة طبيعية" وهو ما كان عنوان كتابي الذي صدر في عام ٢٠١١ (القاهرة: نهضة مصر، مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران).
بعد ما يقرب من عشرين عاما من هذه الدعوة، بدأت مصر في دخول مسار الدول الطبيعية، فلم يعد تجرى الانتخابات فيها على أساس قاعدة "العمال والفلاحين" السابقة، ولا صار نظام الثانوية العامة كما كان، وأصبح لعملتها سعر واحد يصعد ويهبط حسب العرض والطلب، وأمور أخرى كثيرة. وما لفت نظري للأمر مؤخرا خبر نشر في الصحف القاهرية أن المملكة العربية السعودية بصدد منح تأشيرات "سياحية" لدخول المملكة والتجول والاستمتاع بمناطقها السياحية الجديدة. المملكة كانت تعرف بالطبع قدوم "سائحين" من جميع أنحاء العالم لحج بيت الله الحرام والقيام بالشعائر المقدسة في وقت وزمن معلوم كل عام. وكان قدوم المسلمين إلى "مكة" و"المدينة" للقدوم إلى جبل عرفات والطواف حول الكعبة المشرفة، وزيارة قبر الرسول الكريم من المشاهد الجليلة التي يؤمها الملايين من دول وأمم وقوميات شتى تشكل مشهدا فريدا. وأذكر في طفولتنا عندما كانت دروس الجغرافيا تشتمل على دراسة للمملكة العربية السعودية أنه كان يذكر أن السياحة الدينية كانت تمثل مصدرا رئيسيا لدخل المملكة. لم يكن النفط قد وصل بعد إلى تلك المكانة التي وصل إليها الآن؛ ولا كانت المملكة قد قررت إعطاء تأشيرات سياحية من أجل تعزيز صناعة السياحة بها. والحقيقة أنه رغم أن المملكة محاطة تقريبا بدول "سياحية" من جميع الجهات، يعتمد بعضها على الآثار التاريخية (مصر والعراق)، وبعضها الآخر على التجارة (دولة الإمارات وتركيا)، والسياحة الشاطئية والتسلية (لبنان ومصر مؤخرا) فإن المملكة كانت تحرم كل ذلك رغم شواطئها الواسعة والمتعددة المناخ على البحرين الأحمر والخليج، فضلا عن صحراواتها الخلابة. لم يكن ذلك أمرا "طبيعيا" أن تكون دولة عربية وشرق أوسطية خالية من السياحة غير الدينية؛ ولم يكن ذلك هو الأمر غير الطبيعي الوحيد بعد أن نجحت قوى التطرف ليس فقط في بث الخوف والذعر، وإنما أيضا حرمت المملكة من دور السينما والمسرح، ومعها كافة أنواع الترفيه الأخرى.
قرار المملكة بمنح تأشيرات سياحية لزيارة المملكة كان تتويجا لأربع سنوات من التغيير والتحديث جرى التركيز الإعلامي فيها على الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي سرعان ما أفضت إلى ثورة "ترفيهية" كبرى انتشرت في جميع أقاليم المملكة تماشت مع الثورة في أوضاع النساء والأقليات المذهبية وقيام دولة المواطنة الحديثة. والسياحة في هذا الإطار تشكل صناعة معقدة ومركبة من صناعات عدة تضع الثقافة في مكانة متميزة. ومن هنا بينما كان اكتشاف الدولة السعودية لنفسها من خلال الكشف والعرض للآثار القديمة الممتدة إلى الآلاف من السنوات الماضية. وأذكر في هذا الصدد أنه أثناء وجودي في مدينة "هيوستون" بولاية تكساس الأمريكية عام ٢٠١٤ أن زرت متحفها الكبير وكان فيه عرض للآثار السعودية، وإذا بي أجد فيها قطعا "فرعونية" متميزة جرى رفع الرمال عنها في مناطق المملكة. كان واضحا أن التفاعل بين السعودية ومصر كان قديما قدم العصور، ولكن ظروف ذلك ومتى حدث لعلها سوف تكون موضوعا لسياحة المؤرخين والمؤتمرات التي تبحث وتقرر. ما يهمنا هنا أن صناعة السياحة السعودية سوف تكون متشعبة بالضرورة فيها ما هو ثقافي، وفيها أيضا ما هو مرتبط بالمتعة والتسلية والترفيه سواء كان ذلك للمواطنين السعوديين على اختلاف مشاربهم أو من المواطنين القادمين من أركان الدنيا الأربعة ليس فقط للحج أو أداء العمرة، وإنما للراحة والاستمتاع والمعرفة.
لم يكن منع السياحة في المملكة في غير الأمور الدينية من الأمور "الطبيعية"، فالسياحة فضلا عن أنها وسيلة للتعارف بين الشعوب، وأنها أداة من أدوات التعبير عن حضارة الدولة وثقافتها، فإنها كما ذكرنا "صناعة" عندما تجري إجادتها فإنها لا تقل في الثروة عن النفط كما هو الحال في دول مثل إسبانيا وفرنسا بل وحتى الولايات المتحدة. المنهج السعودي الآن يسير في هذا الاتجاه "الطبيعي" الذي جرى الحديث عنه مرارا وتكرارا خلال العقود الماضية عن تنويع مصادر الدخل، ولكنه لم يقدر به التطبيق إلا خلال هذه المرحلة من نمو الدولة السعودية التي خرجت تنقب على اتساع المملكة عن الثروات التي لم يمسسها بشر ولا خطرت في بال إنسان من قبل. وكما هو الحال في كل صناعة فإن المسألة ليست "الدخل" فقط، وهو مهم، ولكنها أيضا صناعة الإنسان السعودي؛ فلعله من المعلوم أن الصناعات النفطية ليست كثيفة العمالة سواء كانت في الاستخراج أو في الصناعات البتروكيماوية، السياحة والصناعات التحويلية هي التي تعيد تشكيل الإنسان المنتج، المقيم في الحضر، والمتفاعل مع العالم الخارجي بما فيه من تجارب وحضارات. ومثل ذلك يمكن أن يتضاعف إذا ما جرى في نموذج للتعاون الإقليمي فعلى الجانب الآخر من البحر الأحمر حيث السواحل المصرية، بمدنها (الغردقة ومرسى علم وسفاجا والقصير) وجزرها العديدة توجد تجربة غنية لا تزال في بدايتها؛ فلماذا لا يكون البحر الأحمر منطقة للرخاء السياحي المشترك بعد تخطيط الحدود البحرية بين المملكة ومصر التي تعين المنطقة الاقتصادية الخالصة، والجزر الخاصة بكل دولة. هذا ليس محض خيال فمشروع "نيوم" عابر للحدود والدول، ولكن المشروعات تحتاج إلى أن تظل دوما في الخيال العام، ومسرحا للمبادرة الفردية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة