الطبقة السياسية برمتها ظلت صامتة إزاء غليان الشعب العراقي إلى أن ازداد سقف المتظاهرين إلى إزاحة هذه الطبقة الحاكمة
لا يوجد أكثر من مشهد امرأة خرساء تبيع المناديل الورقية "الكلينكس" في ساحة التحرير، لكنها عندما رأت الدماء تنزف من أجساد المتظاهرين ووجوههم، راحت توزع عليهم بضاعتها مجاناً من أجل تنظيف تلك الدماء الطاهرة. وهناك مشهد آخر لرجل مُعاق، بساق خشبية يشارك في هذه المظاهرات، وغيرها من المشاهد الإنسانية. هذه المظاهرات ليست وليدة اليوم بل هي تمتد إلى عام 2003 عندما نصّب المحتل هذه الطبقة السياسية وجاء بها من الخارج، ليضع الألغام في الأرض العراقية من خلال المحاصصة الطائفية وتشريع الفساد. فما يحصل الآن له جذور عميقة، وحالة الغليان نضجت شيئاً فشيئاً حتى كبرت كرة الثلج، ولا يمكن لأحد أن يوقف نموها. قبل هذه المظاهرات الشعبية العارمة في الأول من أكتوبر، انطلقت مظاهرات حملة الشهادات العليا الذين رشوهم بخراطيم الماء الساخن وجرفوهم إلى الشوارع الخلفية.
شباب المظاهرات الحالية لا يعرفون معنى المساومة، ولا التراجع ولا التخاذل، ولا يمكن لجيش وقوات أمنية تأسست على قيم طائفية أن تقف مع هؤلاء المتظاهرين الشرفاء الذين يفتقرون إلى قيادة، ولو توفر ذلك لأسقطوا الطبقة السياسية الفاسدة خلال أيام كما حصل في تونس والسودان وبلدان أخرى.
الطبقة السياسية برمتها ظلت صامتة إزاء غليان الشعب العراقي إلى أن ازداد سقف المتظاهرين إلى إزاحة هذه الطبقة الحاكمة بكل أحزاب الإخوان سنّة وشيعة. لذلك لم تتمكن الحكومة من أن تتعامل مع المحتجين بروح المنطق والعقلانية بل زجت القوات الأمنية بكل أسلحتها من أجل وأد هذه المظاهرات، وهي متفرعة من الأحزاب الإسلامية. وما أخاف الطبقة السياسية أن هذه المظاهرات لم تقتصر على العاصمة وساحة التحرير، رمز المتظاهرين، بل انفجرت في محافظاتٍ شيعية هي الأكثر تضرراً من هذا النظام الذي يدعي تمثيلها. لقد تجاوز هذا الغليان الطبقة السياسية التي أغرقت العراق في ديون فلكية، وراكمت المشاكل دون حلول من التعليم إلى الصحة إلى الكهرباء إلى انتشار البطالة إلى المهجرين إلى عدم تعمير المدن المدمرة.. إلى الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة، إلى هيمنة إيران على الاقتصاد العراقي، إلى المليشيات التي تتحكم بمصائر العراقيين، وغيرها.
تجسد هذه المظاهرات الغضب الجماهير غير المنظم والذي لا يمثل أية كتلة سياسية أو حزب ديني، وهذا ما أدخل الهلع إلى نفوسهم لأن عروشهم باتت مهددة. فقد نجحت إيران في تفكيك العراق وصنعت الجماعات الإسلامية الشيعية والسنيّة كتيارات راديكالية من أجل تكريس الفكرة الطائفية، لاستخدامها في تأجيج الصراعات ليس داخل المجتمع العراقي بل حتى داخل المجتمعات العربية، وتمزيقها من الداخل كما هو حاصل في سوريا ولبنان واليمن والعراق. وعملت العصابة الدينية في طهران وقم على ضرب وحدة الشعب العراقي، وفتت هويته القومية العربية، بحيث أصبحت كلمة عروبة مشبوهة وذات دلالات سلبية، واقتلاع جذور العراق التاريخية ومحو كل ما هو حضاري في وادي الرافدين. وضخت كل قوتها في المليشيات الطائفية من أجل إضعاف الدولة العراقية، لتكون بديلاً عن مؤسسات الدولة، لكن السؤال المهم هو:
هل يمكن إيقاف هذه المظاهرات الشعبية من خلال العنف وحظر التجول؟
بات المواطن العراقي يجهل مصيره، ولا يعرف بوصلته، لأنه وجد نفسه موزعا بين طوائف دينية تبغض بعضها البعض، وقوميات تريد الفكاك عن بعضها، وعشائر تتفاخر بالهوس والصراعات والثأر. والفسيفساء خرج من سجنه: شيعة وسنّة وإيزيديون وصابئة ومسيحيون، وعرب وأكراد وتركمان وداغستانيون وشبك، ولغات وثقافات، ولكن أمام الظلم توحدت جميعها في المظاهرات الحالية.
إن الأحزاب الإسلامية تتحمل المسؤولية كاملة، فهي التي أوصلت العراق إلى انسداد الأفق، وتم بناء الطبقة السياسية على مبدأ المحاصصة الطائفية والفساد، لذلك رفع المتظاهرون لأوّل مرّة شعار "إسقاط النظام"، لأنها تعبر عن ثورة شعب بكامله، وكشفت عمالة الأحزاب الدينية والسياسية وإفلاسها أمام حقوق الشعب.
لا يفيد الآن تبديل الوجوه بل وتغيير حكومة عادل عبدالمهدي، بل قلع الطبقة السياسية برمتها، لأنها منذ 2003 عبارة عن إعادة تدوير للوجوه نفسها. وقد كشفت هذه الطبقة السياسية عن همجيتها في قتل نحو عشرة شباب ومئتي جريح. وبدلاً من تقديم الحلول أو الاستقالة، راحت الحكومة إلى إعلان منع التجوال وقطع الإنترنت وغيرها من الإجراءات التعسفية التي تتناقض مع الدستور رغم خلل بنوده الواضح. وهذه الطبقة السياسية جاءت بأجندات خارجية وإيرانية على وجه الخصوص من أجل الهيمنة على مقدرات الشعب العراقي، وإغراقه في الذل والهوان والفقر والحاجة في بلد بترولي تصل ميزانيته إلى مئات المليارات من الدولارات!
شباب المظاهرات الحالية لا يعرفون معنى المساومة، ولا التراجع ولا التخاذل، ولا يمكن لجيش وقوات أمنية تأسست على قيم طائفية أن تقف مع هؤلاء المتظاهرين الشرفاء الذين يفتقرون إلى قيادة، ولو توفر ذلك لأسقطوا الطبقة السياسية الفاسدة خلال أيام كما حصل في تونس والسودان وبلدان أخرى.
مما لا شك فيه أن الأحزاب الدينية ومافيات الفساد تطبخ في السر خططا ومؤامرات من شأنها إفشال هذه الانتفاضة لأنهم تخلوا عن وطنيتهم لصالح دول أخرى، وتبعيته لإيران إقليمياً، ولكن لا يمكن أن يجهض شباب الانتفاضة الذين يصنعون التاريخ بعد فشل حكومي دام سبعة عشر عاماً دون وجود أي بصيص أمل في تغيير الحكومات الفاسدة التي تعاقبت على حكم العراق منذ الاحتلال وحتى الوقت الحالي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة