"هؤلاء هم الإخوان".. بقلم طه حسين عام 1954
الأديب المصري ربط بينهم وبين الخوارج، وبين التربص البريطاني بالعودة لاحتلال مصر، وأنهم يعادون الطبيعة الوديعة المطمئنة للمصريين.
إنهم من زمن الخوارج، وقبضة من نيران الحروب التي يشعلها المحتلون في العالم، يخالفون الطبيعة الوديعة للمصريين، ويعملون على نشر القتل بينهم.
هكذا وصف الأديب المصري الشهير طه حسين تنظيم الإخوان الإرهابي قبل 64 عاما في كتاب "هؤلاء هم الإخوان" الذي ضمنه هو وكتاب مصريون آخرون شهاداتهم على هذا التنظيم عقب محاولته اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، والقيام بانقلاب على الحكم الوليد عام 1954.
ووقعت محاولة الاغتيال بإطلاق الرصاص على عبدالناصر خلال خطابه بالإسكندرية، وسط فرحة المصريين بتوقيع اتفاقية جلاء الإنجليز عن البلاد، كعادة الإخوان في تعكير فرحة المصريين.
قال طه حسين، إنه في ذلك الوقت- الخمسينيات- كان يتابع ما يحدث من مذابح يرتكبها الفرنسيون ضد الجزائريين والمراكشيين والتونسيين، وأخرى تجري في إيران "وأقول لنفسي ولكثير من الناس إننا ما زلنا في عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الإنسانية".
ولكنه فوجئ بأن هذا الوباء حط على مصر "ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أقطار الأرض".
واعتبر أن المصريين كانوا في غفلة عن هذه الضغائن، فهم لم يتوقعوا أبدا أن تظهر مع "ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذي لا يحب العنف ولا يألفه، ولا يحب أن يبلغ أرضه، فضلا عن أن يستقر فيها".
واستدل على الطبيعة الوديعة المطمئنة للمصريين بما تابعه العالم كله من الفروق بين الثورة المصرية 1952 البيضاء الخالية من المذابح والدماء، وبين غيرها من ثورات اجتاحت العالم وأهدرت طوفانا من الدماء من أبناء الشعب، فضلا عن حكامه، كما حدث في فرنسا وإنجلترا وروسيا وإسبانيا.
وقال: "ألم نشهد منذ عامين اثنين (1952) ثورة يشبها الجيش، وفي يده من وسائل البأس والبطش ما يغري بإزهاق النفوس وسفك الدماء، ولكنه يملك نفسه، ويملك يده، فلا يزهق نفسا ولا يسفك دما، ولا يأتي من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق".
"فأخرج الطاغية، ولكنه أخرجه موفورا يحيا كما يحب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ في نفسه قليلا ولا كثيرا".
ويشير بذلك إلى سماح قيادة الثورة للملك فاروق -حاكم مصر حتى عام 1953- بمغادرة البلاد مكرما، مصحوبا بعائلته والمال، وتم توديعه بإطلاق 21 طلقة مدفعية، ولم يتم قتله هو وأسرته كما حدث للعائلة الحاكمة في فرنسا وروسيا.
وعن ظهور الإرهاب الإخواني قال: "ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم في الوطن، ولإخوانهم في الدين، ولإخوانهم في الحياة التي يقدسها الدين كما لا يقدس شيئا آخر غيرها من أمور الناس".
ويتساءل بتعجب عن كميات الأسلحة التي ضبطتها قوات الشرطة المصرية في مخازن الأسلحة الإخوانية بعد محاولة الاغتيال: "ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التي تدخر في بيوت الأحياء وفي قبور الموتى؟ وما هذه الخطط التي تدبر، وما هذا الكيد الذي يكاد؟ ما كل هذا الشر، ولم كل هذا النكر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين؟".
وأرجع طه حسين مصدر فكر ودوافع تنظيم الإخوان إلى الخوارج: "جاء بعضها من أعماق التاريخ. من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شيء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم في الإسلام".
كما رأى سببا آخر وهو أن هذا الإرهاب هو قبضة نار حلت على مصر من النار المتأججة في العالم حينذاك ضد الشعوب الساعية للاستقلال: "جاء بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذي ملأ الأرض ظلما وفسادا من هذا القتل المتصل في الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفي البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء في البلاد المستعمرة التي يريد أهلها الحرية، ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والإذعان".
وتتالت عدة شهادات مصرية وبريطانية على العلاقة بين تنظيم الإخوان وبين بريطانيا، التي أقصتها ثورة 1952 عن احتلال مصر، حيث سعت لندن لاستغلال التنظيم في تأجيج الأوضاع في مصر، وإزهاق الثورة المصرية؛ لتهيأ لها العودة لاحتلال البلاد مجددا، أو تسليم حكمها للإخوان كوكيل لها.
إفشال الاستقلال
وتحت عنوان "فتنة"، واصل طه حسين تشخيصه للظروف التي جاهر فيها الإخوان بشرورهم، قائلا إن هذه الضربة جاءت إلى مصر وهي "تجرب الاستقلال للمرة الأولى بعد أن خضعت لسلطان الأجنبي الخارجي دهرا طويلا (...) والعالم يرقبها ليرى كيف تنهض بأعبائها الجديدة"، في إشارة إلى تحفز أعداء مصر لينقضوا عليها مجددا إذا ما فشلت.
وتنبأ طه حسين بأنه لو كان تم للإخوان مرادهم باغتيال الرئيس عبدالناصر لوقعت "الحرب الداخلية بين المواطنين"، وأن يضيع هذا الاستقلال الذي ذاقت مصر في سبيله مرارة الجهاد الشاق، وأن ترجع مصر أدراجها ليدبر أمرها الأجانب، وذلك بزعم أن أبناء مصر لم يحسنوا استغلال فرصة الحرية.
"الضحايا.. والمساكين"
تحت هذا العنوان كتب الصحفي المصري الشهير آنذاك، محمد التابعي، مقاله مستهزئا بتنظيم الإخوان، وهو يستعرض صدمة المدعو محمود عبد اللطيف، صاحب محاولة الاغتيال، وهو يتابع زملاءه من الإخوان في ساحة المحكمة "يتخاذلون عنه، ويكذبون، ويحنثون في أيمانهم بالله العظيم، وكل منهم يحاول أن ينجو بجلده ويرمي التهمة على صاحبه وأخيه".
وكيف أن هؤلاء "أشباه الرجال" الذين كان "يعتقد أن طاعتهم من طاعة الله"، فشاهد بعينه "مصرع مثله العليا".
ونقل أن عددا من هؤلاء الإخوان، مثل هنداوي دوير وإبراهيم الطيب وخميس حميدة ومرشدهم حسن الهضيبي قالوا خلال المحاكمة إن ما فعله "جريمة وخيانة في حق الوطن! وإنها جريمة بشعة نكراء لا يقرها دين الإسلام ولا يرضى عنها المسلمون".
كما قال هؤلاء إن جمال عبدالناصر لم يبع بلاده ولم يخن الأمانة كما ادعى عبداللطيف لتبرير محاولة الاغتيال.
فكانت ردة فعل عبداللطيف أن أعلن ندمه وحسرته، فهو كان ينفذ ما تعلمه من هؤلاء، فنظر إليه رئيس المحكمة جمال سالم وقال له: "اقعد يا غلبان".
ورأى الصحفي المصري أمرا إيجابيا فيما وقع وقتها، وهو أن الرأي العام كان قبل تلك الجريمة يقف موقفا "مايعا" من جماعة الإخوان، ولكنه عرف الحقائق، وبات يرى أن جماعة الإخوان هي "جنود الشيطان".
وتأكد مما كانت تكتبه الصحف عن امتلاك هذه الجماعة جهازا سريا قبل 1952، ولكنه لم يكن لمحاربة الإنجليز كما ادعت، ولكن لمحاربة المصريين أنفسهم، مستدلا على ذلك بحوادث سابقة، ومنها اغتيال رئيس وزراء مصر قبل الثورة محمود النقراشي رغم معاداته للإنجليز، حتى أنه وقف في مجلس الأمن الدولي يقول للإنجليز: "يا قراصنة اخرجوا من بلادنا" فما كان جزاؤه من الإخوان إلا القتل لأنه حلَّ جماعتهم.
لو نجحت المؤامرة
وكتب الصحفي علي أمين أن الخطة الموضوعة كانت قتل جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة والتخلص من 160 ضابطا بالقتل أو الخطف، ثم تأليف وزارة تأتمر بأمر الإخوان لتمهيد الطريق لحكومة من الإخوان.
ووضع تصورا لو نجحت هذه المؤامرة، فقال إن كثيرا من قيادات الإخوان ستتعارك على المناصب والسياسات، وسيقبض مرشدهم مأمون الهضيبي على المخالفين له ويضعهم في السجن.
ويجتمع آخرون خرجوا من الانقلاب الإخواني بلا نصيب في الحكم ليشكلوا جهازا سريا -كعادتهم- ولكن هذه المرة ضد نظام الإخوان ذاته، وينطلق الرصاص، فإذا طاش سيعتقل الهضيبي أعضاء الجهاز السري، وإذا أصاب سيقوم الحاكمون الإخوان الجدد بقتل جميع وزراء الهضيبي السابقين عليهم، ويتخلصون من أنصارهم، وهكذا دواليك.
والتصور الذي وضعه علي أمين ليس من الخيال، فقد تكرر مرارا بعد وصول الإخوان للحكم وتمكنهم فيه، كما حدث بين إخوان السودان في صراع عمر البشير وحسن الترابي، وإخوان تركيا بين رجب طيب أردوغان وفتح الله كولن.