منذ تأسيس دولة الإمارات وهي جاذبة لجميع الجنسيات والاستثمارات، ولم تكن يوما خلال الخمسين عاما الماضية دولة طاردة.
ولعل حالة الجذب، التي جعلت الإمارات قبلة للجميع في شتى المجالات، تعود إلى مجموعة عوامل سياسية وإنسانية واجتماعية واقتصادية، لكن الأكيد أن تلك الحالة ما كان لها أن تستقيم على الوتيرة نفسها أو تستديم إلا بوجود بنية تشريعية مشفوعة بمواد فعالة في الدستور الإماراتي.
فمَن يعود إلى دستور 1971 لدولة الإمارات، وتعديلاته لعام 2009، يجد أن الأولوية كانت لمقومات الاتحاد، والباب الثاني به للدعامة الاجتماعية والاقتصادية، والثالث للحقوق والواجبات والحريات.
ثلاثة أبواب في الدستور الإماراتي احتلت الصدارة قبل الحديث عن السلطات الاتحادية والتشريعات.
المادة 14 من الباب الثاني تؤكد المساواة والعدالة الاجتماعية، الأمن والطمأنينة، وتكافؤ الفرص، التراحم والتراضي والتعاضد، وتؤكد أهمية الأسرة باعتبارها أساس المجتمع، وهكذا أيضا ما يتعلق بالحقوق والواجبات والحريات العامة والخاصة.
هذه المواد في الدستور الإماراتي تمت ترجمتها إلى قوانين تضمن إنزال الدستور من عليائه إلى أرض الواقع.
البنية التشريعية، التي رافقت المرحلة التأسيسية لدولة الإمارات، خلقت مُناخا آمنا لكثير من الجاليات والجنسيات العربية والأجنبية، المسلمة وغير المسلمة، وتحققت مقولة المعايشة والتعايش هنا في الإمارات على أكمل وجه.
تعايَش المختلفون في اللغة والدين والجنس والعرق.. عملوا في مكان واحد، وسكنوا في مكان واحد، ولم يلحظ أحد أي سلوكياتٍ للكراهية أو التحريض أو التمييز.
في يوليو 2015، أصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آلِ نهيان، رئيس دولة الإمارات، مرسوماً بقانون رقم 2 لسنة 2015 بشأن مكافحة التمييز والكراهية، ويهدف القانون إلى إثراء ثقافة التسامح العالمي، ومواجهة مظاهر التمييز والعنصرية، أياً كانت طبيعتها، عرقية، أو دينية، أو ثقافية.
يقضي القانون بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ومكافحة أشكال التمييز كافة، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير، كما لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأي والتعبير لإتيان أي قول أو عمل من شأنه التحريض على ازدراء الأديان أو المساس بها، بما يخالف أحكام هذا القانون.
ويحظر قانون مكافحة التمييز والكراهية التمييز بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين، أو العقيدة، أو المذهب، أو الملة، أو الطائفة، أو العرق، أو اللون، أو الأصل، كما جرّم كل قول أو عمل من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات، أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات من خلال نشره على شبكة المعلومات الدولية أو المواقع الإلكترونية أو المواد الصناعية أو وسائل تقنية المعلومات أو أي وسيلة من الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وذلك بمختلف طرق التعبير كالقول، أو الكتابة، أو الرسم، ولعل هذا القانون أكد القاعدة، التي تأسس عليها الاتحاد وتأسست عليها دولة الإمارات.
العامل الإنساني التأسيسي لدولة الإمارات كان مهما بالإضافة لبقية العوامل الأخرى السياسية والاقتصادية.
في المرحلة التأسيسية الأولى، التي امتدت منذ ديسمبر 1971 وحتى 2004، تاريخ وفاة المؤسس الأول الشيخ زايد بن سلطان آلِ نهيان، طيّب الله ثراه، تم وضع حجر أساس متين لبنية القيم والأخلاق لدولة الإمارات، وتأكد ذلك صراحة عبر أحاديث الأب الراحل عن مساعدة الآخر وعدم الظلم ورفض الاستقواء.. أضف إلى ذلك كم المشاريع الإنسانية والاقتصادية والعمرانية والزراعية والطبية، التي أنشأها الراحل خارج جغرافيا دولة الإمارات، ولعل أهم المدن والمؤسسات، التي تحمل اسم "الشيخ زايد" تنتشر في كل شبر ومدينة على مستوى المعمورة.
لقد وُضعت في عهد الشيخ زايد بن سلطان آلِ نهيان القواعد الإنسانية، التي انطلقت على أساسها الإمارات، واستمرت على نهجها القيادة الحالية للدولة، وفي الوقت نفسه تمت حماية هذه القواعد والقيم الإنسانية بترسانة فاعلة من التشريعات والقوانين، خصوصا ما يتعلق بالتسامح والسلام والأمن.
الزمن الثاني لدولة الإمارات بعد زمن التأسيس لم يكن سهلا، بل كانت الجغرافيا العربية تعاني.. ففي العراق سقط نظام صدام حسين، وجرى ما جرى في أفغانستان، وانتشرت مليشيات إيران داخل دول عربية، رغم ذلك نجحت دولة الإمارات في عبور هذه الألغام دون أن تقصّر في واجبها تجاه الأمن القومي العربي.
ظلت الإمارات تُعلي من قيمة الاستقرار وتنوع عوامل الجذب، حتى أصبحت قِبلة الاستقرار والأمان اقتصاديا واجتماعيا بينما عانى آخرون من فوضى ما سُمي "الربيع العربي"، لذا لا غرابة والإمارات تحتفل بعيدها الخمسين أن تُصدر حزمة تشريعات تؤكد قيمة الجذب والاستقرار.. قيمة مواكبة الزمن الاقتصادي الجديد الذي يحترم التنافسية، فجاء اعتماد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آلِ نهيان، رئيس دولة الإمارات، أضخم مشروع لتطوير التشريعات والقوانين الاتحادية في الدولة.
وتتضمن هذه التعديلات تطوير بنية تشريعية تشمل قوانين ذات علاقة بالقطاعات الاستثمارية والتجارية والصناعية، وقوانين الشركات التجارية، وتنظيم وحماية الملكية الصناعية، وحقوق المؤلف، والعلامات التجارية، والسجل التجاري، والمعاملات الإلكترونية وخدمات الثقة، والتخصيم، وقانون دخول وإقامة الأجانب، وقانون القواعد العامة الموحدة للعمل، بالإضافة إلى القوانين ذات العلاقة بالمجتمع وأمن أفراده، مثل قانون الجرائم والعقوبات، وقانون مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية ومكافحة المخدرات.
جاءت التغييرات التشريعية الجديدة بعد تنسيق اتحادي محلي، ومن خلال فِرق عمل تضم 540 متخصصا وخبيرا من 50 جهة اتحادية ومحلية، وعلى مدار 5 أشهر ماضية، بالإضافة إلى التشاور مع أكثر من 100 شركة في القطاع الخاص، وذلك بهدف مواكبة أفضل الممارسات في العالم، وآخر المستجدات في مجال التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، وصولا لتسهيل الإجراءات، وتسريع آلية اتخاذ القرار.
إن حزمة التشريعات الأخيرة في الإمارات تجعلنا نتوقع الحالة التي ستكون عليها الدولة مستقبلا، تلك الحالة التي ستنقل الإمارات إلى صدارة الدول العالمية في التنافسية والاستثمار والتصنيع والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، كل هذا يأتي دون إخلال بأي من منظومة القيم الأخلاقية والمجتمعية للدولة، التي زرعها المؤسس الأول، ولا تزال القيادة الرشيدة ترويها بماء الرعاية والحفظ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة