الأسرة، ليست نواة المجتمع فحسب بل المجتمع بأسره. هي الأصل والفرع، هي البداية التي يتشكل منها كل مستقبل، وهي أساس صلاح أي أمة ورُقيّها. فإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وإذا ضعفت تداعى بنيان الوطن بأسره.
من هذا الإدراك العميق انطلقت دولة الإمارات بقرارها الاستراتيجي بإنشاء وزارة الأسرة للتركيز على التلاحم والترابط الأسري وترسيخ القيم الإماراتية الأصيلة، لتكون علامة فارقة في مسيرة الوطن ورسالة واضحة بأن مشروع الغد يبدأ من البيت.
إن هذه الوزارة ليست مجرد مؤسسة جديدة، بل هي رؤية شاملة تضع الأسرة في قلب المشروع التنموي، باعتبارها القوة الحقيقية التي تصنع الإنسان وتشكّل الهوية وتدعم الاستقرار.
فالأسرة ليست إطاراً اجتماعياً بسيطاً، بل هي بنية استراتيجية تؤثر على جميع القطاعات: التعليم، الاقتصاد، الصحة، الثقافة، وحتى الأمن المجتمعي.
الأسرة المتماسكة تُخرّج آباءً وأمهات متفاعلين بشكل إيجابي أكثر مع متطلبات العصر الحديث، وترفد الوطن بأبناء أكثر ثقة واستقراراً، وموظفين أكثر إنتاجية، وطلاباً أكثر نجاحاً، وشباباً أكثر استعداداً لتحمّل مسؤوليات المستقبل. ومن هنا، فإن أي استثمار في الأسرة هو استثمار في استدامة التنمية وصناعة مستقبل أكثر أمنا وأمانا لدولتنا الحبيبة.
لكن التحدي اليوم يكمن في التحولات الاجتماعية المتسارعة التي جعلت من الأسرة النووية - حيث يعيش الزوجان والأبناء بمعزل عن العائلة الكبرى - النموذج الأكثر شيوعاً. هذا التحول وإن كان متسقاً مع وتيرة الحياة الحديثة، إلا أنه ترك آثاراً واضحة مثل ضعف الروابط الداخلية، وتراجع الدعم المتبادل بين الأجيال، وزيادة الشعور بالعزلة.
وهنا تبرز مهمة وزارة الأسرة من حيث إعادة هندسة العلاقة بين الأجيال وتعزيز التماسك الأسري، ليس بفرض الماضي كما كان، وإنما بابتكار نموذج إماراتي جديد يجمع بين الحداثة والأصالة.
ولن يتحقق ذلك إلا عبر الشراكات الاستراتيجية مع مختلف الجهات المعنية، فرعاية الأمومة والطفولة مثلا لها مؤسسات فاعلة ومتخصصة، ودعم ذوي الهمم له جهات قائمة تعنى به، والإسكان مسؤولية وأوليه أخرى منوطة بعدد من الجهات الاتحادية والمحلية.
إن الدور الحقيقي من وجهة نظري لوزارة الأسرة هو أن تكون المحرك الاستراتيجي والمظلة التنسيقية التي تمد جسور التعاون والخطط الطموحة مع جميع هذه الجهات والشركاء، لتوحيد الجهود وتذليل العقبات وتوجيه الموارد لخدمة الأسرة الإماراتية.
بهذه الرؤية تصبح الوزارة مركز الثقل الذي يربط بين مختلف القطاعات، ويحوّل الخطط إلى برامج عملية، فيتحقق التلاحم الأسري في صورته الشاملة، وتتجسد الهوية الوطنية في كل بيت إماراتي.
إن الهدف ليس العودة الحرفية للأسرة الممتدة التقليدية، بل بناء أسرة عصرية بروح ممتدة، حيث يتشارك الأجداد والأبناء والأحفاد القرب الجغرافي، والدعم النفسي، والمسؤوليات، في بيئة مرنة تتماشى مع تحديات العصر.
وتؤكد التجارب الدولية أن هذا المسار ممكن وواعد. فقد قامت دولة خليجية بإنشاء وزارة للتنمية الاجتماعية والأسرة بعد فصلها عن وزارة العمل في عام 2021 وقد كان شعار هذه الوزارة "من الرعاية إلى التمكين"، واستطاعت عبر شراكاتها أن تُعزز الروابط الأسرية وتجعلها جزءاً من خطط التنمية الوطنية. أما تركيا فقد أعادت هيكلة وزاراتها في عام 2021 لتمنح ملف الأسرة تركيزاً خاصاً، ما انعكس على برامج الحماية الاجتماعية والاندماج. وفي سنغافورة، ارتبطت سياسات وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة منذ عام 2012 بشعار براق "سنغافورة صنعت من أجل الأسر" جاعلة الأسرة محوراً للتنمية المجتمعية الناجحة.
اليوم، تملك دولة الإمارات فرصة لتقديم نموذجها الخاص، الذي يجمع بين القيم الراسخة والابتكار العملي، لتصبح وزارة الأسرة ليس مجرد جهاز حكومي، بل مشروعاً وطنياً متكاملاً يهدف إلى ترسيخ الهوية الإماراتية، وتعزيز التلاحم بين الأجيال، وتمكين المجتمع، وحماية كبار المواطنين، ودعم أصحاب الهمم، وجعل البيت الإماراتي قلبا نابضاً ومحركاً للتنمية الشاملة.
إن هذا المشروع الطموح يتطلب رؤية واضحة وخططاً عملية، لكنه في جوهره يعكس وعياً عميقاً من القيادة بأن قوة الإمارات تبدأ من البيت. ففي عالم يزداد تعقيداً وتسارعاً، تبقى الأسرة هي الأساس المتين، والمصدر الأول للقيم والهوية والولاء.
وفي ختام هذا المقال، لا يسعني إلا أن أتقدم بأسمى آيات الشكر والعرفان إلى قيادتنا الرشيدة، وعلى رأسها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات – حفظه الله - قائد النهضة وصانع المستقبل، وإلى أم الإمارات الشيخة فاطمة بنت مبارك، الداعمة الأولى للأسرة والمرأة الإماراتية، وإلى كل من يعمل بإخلاص لتقوية روابط الأسرة وحماية قيمها الأصيلة. بفضل هذه الرؤية الحكيمة، تمضي الإمارات بثقة نحو مستقبل تُزهر فيه الأسر، ويزدهر فيه الوطن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة