هناك قصة مشهورة في الأدب العالمي عنوانها "صورة دوريان جراي" للكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد.
تدور القصة حول شاب وسيم بريء يتفق مع أحد الرسامين على أن يرسم له لوحة، ثم بعد الوقوع في أي خطيئة من خطايا الدنيا يرسم أثر تلك الخطيئة على وجهه في تلك اللوحة، وفي نهاية القصة يمتلئ الوجه بالخطايا.
وعندما يعود الشاب ذات ليلة إلى منزله ويلمح نفسه في المرآة، يحطم المرآة، ويعاهد نفسه مرة أخرى أن يكون صالحًا وأنه لم يكن السبب وراء هذا، إن أفعاله تؤرقه ولكن السبب وراء ذلك هو أنه يريد أن تعود الصورة جميلة كما كانت.
وذهب ليرى ما إذا كان الفعل الصالح الذي صنعه مؤخرًا قد حسّن الصورة، لكنه وجده أسوأ وأسوأ.. فقرر "دوريان" محبطًا أن يحطم الصورة لأنها تمثل ضميره، فاخترق الصورة بسكين وأيقظ صوت تحطم هائل وصرخة فظيعة الخدمَ وشعروا بأن شيئًا سيئًا للغاية قد حدث، فصعدوا ليروا ما حدث ورُوِّعوا بما وجدوا: صورة سيدهم جميلة كما كانت منذ البداية معلقة على الحائط، ورجلا مبهما استلقى ميتًا على الأرض على إثر طعنه بسكينٍ في قلبه.
وفي أثناء الفحص تعرفوا إليه من الخواتم الموجودة على أصابعه وعرفوا أنه "دوريان جراي".
أحببت أن أبدأ هنا بهذه الإشارة الرمزية لنتيجة سأذكرها في الختام.
بداية لا شكّ أن رفيق الحريري كان قامة لبنانيّة وإقليميّة ودوليّة لا تتكرر على مستوى لبنان، وأن من خطّط ونفّذ عمليّة اغتياله كان يستهدف إزاحة شخصيّة لها وزنها وتأثيرها في مُجريات الأمور في كل المنطقة، وبعد وفاته أتى نجله سعد الحريري، الذي بحق يملك شبابا وحيوية وكاريزما وصفاء قلب ونيّة، لكنه دون خبرة أبيه في مواجهة متمرِّسي السياسة اللبنانية، الذين أتعبهم رفيق الحريري بنجاحاته الاستثنائية، فحمل الشاب حملاً شعبيا ثقيلاً وإرثٌاً سياسيّاً محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً ضخما، ارتبط بكثير من الصدمات والاضطرابات والتناقضات، وقدّم التنازلات لتحقيق التسويات وانتهى به الأمر إلى إعلان الانسحاب من الحياة السياسية، بمعنى أنه لن يشارك في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأنه وحزبه في "إجازة سياسية مفتوحة"، وهو الذي رضي لنفسه القيام ببعض التسويات لاستقرار الأمن وإبعاد شبح الحرب عن لبنان، لكنها كانت تنازلات أضرت بالحزب وبمن يمثلهم "الحريري"، وتجلى ذلك في الانتخابات البرلمانية الأخيرة فتدنت شعبية التيار الحريري بعدم حصوله على الأغلبية السنية التي كان يتمتع بها، إلا أن الأسباب العميقة لهذه النهاية المؤلمة لا تعود إلى فرد أو شخص، بل إلى رهانات انطلقت منها التجربة الحريرية أساساً لإعمار لبنان وبناء الدولة.. أي إنها رهانات تشكلت إثر "اتفاق الطائف"، الذي افترض نهاية للحرب الأهلية، وانطلاق المصالحة بين الطوائف والقوى السياسية في لبنان، وبات الباب مفتوحاً لإصلاح مؤسسات الدولة والنهوض الاقتصادي.
كثيرون رأوا في "الحريرية" أيام رفيق الحريري مشروعاً اقتصاديا ناجحاً، رؤية إنمائية وإعمارية، شبكة علاقات دولية قادرة على جذب رؤوس أموال من الخارج، رعاية واحتضانا خليجيا يؤمّن وفرة سيولة للمشاريع. فقد اتخذت في البداية طبيعة عابرة للطوائف، واستطاعت اجتذاب الطاقات والشخصيات من طوائف متعددة، لكن "الحريرية" بعد رفيق الحريري كانت أمام سياسات تسببت في تآكل الدولة وانهيار اقتصاد البلد، وأوقعت سعد الحريري في تناقضات وإخفاقات متتالية، تسببت اليوم في أزمة ثقة وصدقية مع دول الخليج العربي، وأحدثت إرباكا داخل تياره واستياءً شعبياً من أدائه.
لقد طعنه الخصوم ساعة دخوله "البيت الأبيض" للقاء أوباما ورأوا في تنازلاته يوما بعد يوم هدفاً سهلاً للانقضاض عليه وتدميره.. واليوم تكون نهاية "الحريرية السياسية" بمثابة إعلان عبر المؤتمر الأخير لا تقتصر دلالاته على عدم جدوى السياسة في ظل النفوذ الإيراني داخل لبنان عبر "حزب الله" الإرهابي، بل مؤداه المباشر إعلان بالتسليم لهذا النفوذ الإيراني، وترك الساحة السياسية خالية وفارغة مما سيجد معه المكوّن السني نفسه للمرة الأولى أمام غياب زعاماته عن واجهة المسرح الانتخابي، مع انسحاب الرئيس السابق للحكومة من الاستحقاق الانتخابي، وكذلك الرئيس السابق، فؤاد السنيورة، وترجيح أن يلجأ رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، إلى الخيار نفسه.. وقطعا سيكون السنّة في لبنان أمام سيناريو مشابه للمقاطعة المسيحية في عام 1992.
صورة سعد الحريري اليوم كما صورة "دوريان جراي"، الذي كان بُعده عن الخطايا يملأ وجهه راحة وسكينة، أما بعد انغماسه في "الموزاييك اللبناني" ويوم فقدانه الركائز الثلاث الأساسية، التي رسمت نجاح والده: نجاحات في إدارة المشاريع والأعمال والثروة ثم الدعم الخليجي للبنان والتفاهمات الإقليمية والدولية على الدور السياسي في لبنان، فقد تأكد أن "الحريرية" لا يمكنها البقاء بعد فقدانها هذه الركائز.. فـ"الحريري الابن" دخل في صراع المحاور وحاول التعويض عن ذلك بالتسوية الرئاسية مع ميشال عون، لكنها تسوية غير قابلة للاستمرار كما اتضح.
امتلأت الصورة الرمزية بفصول من الإخفاق كما صورة "دوريان جراي".. إنها نهاية الحريرية، التي سيبقى طيفها كما صخرة الروشة النابتة في أرض لبنان.
في خلاصة، فقد كان ابتعاد سعد الحريري عن المشهد ضربة موجعة للسنة في لبنان في وقت لا يزال التحدي الأساسي أمام اللبنانيين هو استعادة السيادة كشرط لحل الأزمة الوطنية، لكن يُحسب لها أنها أرسَت نهج الاعتدال في الطائفة السنية وجعلته مساحة لقاء بين كل الطوائف وعنواناً للعيش المشترك في لبنان.. فكلنا يتذكر أن رفيق الحريري أول من استنكر هجمات 11 سبتمبر، وطوال عهود حكوماته كان التطرف يسيطر على العالم مع انتشار فكر إرهابي شارك "الحريري" في محاربته دون هوادة.
اليوم يتساءل اللبنانيون: من سيخلف سعد الحريري؟
وحتى إشعار آخر سيبقى السؤال مطروحاً عمَّن هو الأجدر بذلك، هل هو بهاء الحريري أم غيره؟
في رأيي أن طيف "الحريرية" أكبر من أن يورث، وأن من يحاول الالتصاق به لن يناله من ذلك الطيف إلا النزر اليسير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة