خياران لا ثالث لهما يراهما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ثنايا الأزمة الأوكرانية.
ولكليهما نتيجة واحدة هي دفع موسكو إلى الحرب.. فإما توريط بلاده في نزاع مسلح تترتب عليه عقوبات قاسية، وإما دمج أوكرانيا في هياكل الناتو ونشر أسلحة هجومية ودفعها باتجاه حل مشكلة "دونباس" وإما "القرم" بقوة السلاح، وبالتالي جرّ روسيا إلى النزاع المسلح، هكذا يلخص سيد الكرملين مشهد الضجيج الذي يصدع رؤوس العالم منذ أسابيع عدة.
"الخداع" هو ما يزيد الطين بِلَّة عند الروس تجاه خصمهم التاريخي، حلف شمال الأطلسي، ومعه واشنطن، كما قال "بوتين": "وَعَدُونا بعدم تقدم الناتو بوصة واحدة نحو الشرق، لكنهم خدعونا وتصرفوا بشكل آخر".
وضعت موسكو ثلاثة مطالب على طاولة الأطلسيين، أولها عدم التمدد شرقا والتخلي عن نشر أسلحة هجومية قرب حدودها، وإعادة البنية العسكرية للحلف في أوروبا إلى خطوط 1997.
لم تقنع ردود الناتو وواشنطن موسكو.. ظلت هواجسها الأمنية حاضرة استنادا إلى "الخدعة" السابقة.
يدرك الرئيس الروسي أن خصومه يتصيدون مناطق رخوة في محيط بلاده، لذلك يعتبر أن "أوكرانيا مجرد أداة في يد واشنطن لكبح تطور روسيا".
لم تهدأ الماكينة الإعلامية الأمريكية عن ضخ مواقفها التصعيدية ضد روسيا منذ بداية عهد الديمقراطيين في "البيت الأبيض". وصل الأمر بالرئيس الأمريكي "بايدن" إلى أن يصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ"القاتل" وقتذاك ردا على سؤال صحفي.. ألقت إدارة "بايدن" معظم أوراقها الخلافية مع موسكو بطابعها التاريخي والمستجد على طاولة التجاذب والمناكفة.. تركت أبوابها مواربة لتفسح في المجال أمام الكرملين كي يلتقط هذه الإشارة.
إيقاع صاخب على جميع الجبهات الدبلوماسية مع موسكو رفع منسوب التوتر على خطوط التماس الروسي مع دول حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا وبولندا.. ردود فعل روسية عالية الصوت تتناسب طرديا مع إحساسها بمكانتها.. قرارات عملية وميدانية على تخوم خطوط المواجهة المفترضة.
مارس الجانبان، الناتو وواشنطن، وروسيا، سياسة حافة الهاوية بانضباط حتى الآن، شابها شيء من التوازن درءاً لمنزلقات لا تُحمد عقباها على الجانبين، وعلى القارة الأوروبية وعلى العالم.. كل طرف يدفع بيده ما يعتقد أنها أوراق رابحة، وباليد الأخرى يغذي تصعيدا مضادا ومباشرا حينا وعبر الوكلاء أحيانا.
لم يغلق أي طرف باب الحوار تزامنا مع البحث المعلن عن قواسم مشتركة لقضايا خلافية جديدة قديمة.
وجدت موسكو في لعبة تبادل الطروحات مع واشنطن ومع الناتو فرصة لتمرير بعض مطالبها، التي تتجاوز نطاق القبول من طرف محاوريها، خاصة ما تعلق منها بإصرار الروس على تحقيقه بشأن ضرورة مراجعة مبادئ حلف شمال الأطلسي تحت عنوان عريض أسمته "مبادئ الاستقرار الاستراتيجي".
رفعت موسكو درجة المقايضة على جملة مسائل تقلقها متعلقة بأمنها القومي وتوسع الناتو واقترابه من حدائقها الخلفية.. قابلت واشنطن مجمل الخارطة الروسية المطلبية بانفتاح ملحوظ، وخصصت مسارات تفاوضية لها ووظفت هواجس الغرب الأطلسي إزاء الخطر الروسي المزمع لتوسيع دائرة التناظر.. مسار خاص لمحادثات ثنائية مع موسكو، ومسار آخر لمفاوضات دول الناتو مع موسكو.
بدت روسيا أمام خطين متوازيين في صراعها السياسي مع خصومها، منفردين ومجتمعين. جوهر القضايا المطروحة للتفاوض في كلا المسارين يكاد يكون واحدا.
لماذا سعت واشنطن إلى ذلك؟ كيف تتصور موسكو دوافع ومرامي خصومها؟
لم يكن مفاجئا فشل محادثات المسارين المنفصلين عن بعضهما، الأمريكي الروسي، الأطلسي الروسي.. تَعلَّق الأملُ مجددا على مزيد من التواصل والمشاورات. ثمة استراتيجيتان في هذا المضمار، أمريكية أطلسية من طرف، وروسية من طرف آخر. تسعى إدارة "بايدن" إلى وضع المزيد من الملفات الحساسة مع إدارة "بوتين" على طاولة التداول والتجاذب.. تريد، كما يبدو، دفع الروس إلى حفرة ينهمكون فيها وتستغرقهم تحت هواجس القلق المزمن من خطط ومشاريع الناتو الاستهدافية لهم ولمصالحهم من خلال تحرشات هنا وتصعيد مدروس هناك، مع إبقاء منسوب التوتر على درجة عالية، بحيث يفقد الروس الإحساس بالطمأنينة والاستقرار الاستراتيجي. تلتقط موسكو هذه الفرصة بكامل إدراكها الاستراتيجي ولما يخطط له خصومها الأطلسيون.. تبني على ذلك تصوراتها وأهدافها الممكنة بقراءة ذاتية تتمحور عند حاجة الطرف الآخر إلى التهدئة رغم مناخ التوتر، علّها تتمكن من انتزاع تنازلات بشأن قضايا حيوية متعلقة بمحيطها الحيوي وعمقها الاستراتيجي، سواء في ملفات أوكرانيا أو في أوراسيا أو في الشرق الأوسط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة