السؤال الآن ما هي الاحتمالات الماثلة أمام محاولة التغلب على مشكلات الاقتصاد التركي المتعددة؟
يبدو أنه مع استفحال الأزمة الاقتصادية التركية، يتحول الرئيس التركي ليصبح تماما مثل دون كيخوته في الرواية الشهيرة والذي كان يحارب طواحين الهواء تحت وهم أنها أعداء عمالقة. فقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم السبت الماضي إن تركيا تشن حربا ضد مثلث الشيطان المكون من أسعار الفائدة والتضخم وأسعار الصرف، وجاءت تصريحات أردوغان بعد يوم من تسجيل الليرة لمعدل منخفض جديد.
وقال أردوغان "إن ردنا على هؤلاء الذين يعملون على محاصرة بلدنا في المجال الاقتصادي هو حرب جديدة للتحرير الاقتصادي". وأضاف أن لدى الحكومة "تغييرا هيكليا ضخما" يعد مهما تماما مثلما حدث عند التخلص من الامتيازات التي قدمتها الإمبراطورية العثمانية للقوى الغربية الكبرى مع خلق الجمهورية التركية.
جاء حديث أردوغان في أعقاب تسجيل الليرة سعر صرف منخفض قياسيا بلغ 8.3849 مقابل الدولار. وجدير بالذكر أن الليرة سجلت رقما أقل بلغ 8.48 مقابل الدولار في الأيام التالية، وهو ما يعني تسجيل العملة لانخفاض بنسبة 30% منذ بداية هذا العام. ويعد الانخفاض في شهر أكتوبر هو أكبر انخفاض شهري تشهده العملة خلال عامين. وتتجه العملة لتسجيل ثامن انخفاض سنوي في سعر صرفها، وهو ما يعد أطول مدة متصلة لهذا الانخفاض منذ عام 1982. وعلى الرغم من إنفاق البنك المركزي لحوالي 134 مليار دولار على مدى عام ونصف العام من أجل العمل على تثبيت سعر الصرف، إلا أنه فشل فشلا ذريعا في ذلك كما يتضح في هذا التدهور المستمر في سعر الصرف طوال هذه الفترة.
حديث أردوغان يأتي أيضا في ظل محاولته التعمية على تدهور وسوء الأوضاع الاقتصادية وكأنها نتيجة لمؤامرة خارجية تحاول إخضاع تركيا عبر الضغط عليها اقتصاديا. وهي نظرية مؤامرة تقليدية يحاول تسويقها للجمهور التركي بدلا من الاعتراف بأن سياساته الفاشلة في المجالين السياسي والاقتصادي هي السبب فيما تعاني منه تركيا من تدهور مستمر في سعر الصرف وارتفاع في معدلات التضخم والبطالة، وما يترتب على ذلك من تدهور في مستوى معيشة المواطنين.
ويتبنى أردوغان نظرية مغلوطة تذهب إلى أن أسعار الفائدة المرتفعة تدفع نحو ارتفاع معدلات التضخم على العكس مما تقول به النظرية الاقتصادية والممارسات الواقعية، وهو ما دفعه للإطاحة بمحافظ البنك المركزي السابق الذي لم يكن يوافق على هذا النهج. فمن المعروف أن رفع أسعار الفائدة يعمل على خفض معدلات التضخم عن طريق التشجيع على الادخار وتأجيل الإنفاق وضغط عملية منح الائتمان سواء للاستهلاك أو الاستثمار مع ارتفاع الفائدة على القروض. إضافة إلى ذلك يعمل ارتفاع أسعار الفائدة على زيادة الطلب نسبيا على العملة المحلية ويشجع رأس المال الأجنبي على الاستثمار في أدوات الدين المحلية من أذون وسندات، مما يمنح العملة المحلية في نهاية المطاف بعض الاستقرار في أعقاب التدهور في سعر الصرف.
وعلى حين بدا أن أردوغان قد خضع أخيرا لصوت العقل مع رفع لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي التركي لسعر الفائدة خلال شهر سبتمبر الماضي بمقدار 2%، وتوقع الكثير من المراقبين أن يعقب ذلك سلسلة من الرفع تمكن من محاربة التضخم والدفاع عن سعر الصرف، إلا أن الأمور عادت من جديد للوضع السابق مع قرار لجنة السياسة النقدية في شهر أكتوبر الماضي بالإبقاء على سعر الفائدة ثابتا.
أضف إلى ما سبق أن تدهور سعر الصرف على الرغم من أنه من المفترض أن يساعد على زيادة تنافسية الصادرات التركية ويقلل من الواردات، فإن الواقع لا يجري على هذا المنوال. فالعديد من السلع التي تتخصص تركيا في تصديرها تعتمد على مدخلات كثيرة مستوردة من الخارج، وبالتالي فانخفاض سعر صرف الليرة الذي يعمل على زيادة أسعار الواردات يؤدي إلى تخفيض تنافسية الصادرات التركية عن المستوى المفترض. ومن هنا استمرت مشكلة العجز المزمن في ميزان المعاملات الجارية (الذي يشمل التجارة في السلع والخدمات) خاصة مع الانخفاض الشديد في النشاط السياحي هذا العام بسبب تفجر أزمة كورونا.
أضف طبعا إلى كل ما سبق ما تحمله الأحلام التوسعية لأردوغان من استعادة الإمبراطورية العثمانية تحت قيادته من تكلفة اقتصادية تضاعف من الأزمة. فالرئيس التركي لم يوفر جبهة تسمح له بالتدخل إلا وتدخل، محاولا أن ينصب نفسه زعيما للإسلام السني.
فمن العراق وسوريا إلى ليبيا ثم مؤخرا في أذربيجان تدخل بالسلاح والعتاد والقوات، بل وبالمرتزقة الموجودين في المناطق التي تخضع لسيطرته في سوريا من أجل خدمة أحلامه التوسعية. وربما كان ينتظر أن تنهمر عليه عائدات لهذا التدخل مثلما هو الحال مع قطر، ومع آماله في المشاركة الواسعة في عمليات إعادة الإعمار في ليبيا وربما الحصول على النفط بأسعار تفضيلية، وربما الحصول أيضا على مزيد من الغاز الأذربيجاني بأسعار تفضيلية، لكن هذا كله رهن بسماح المجتمع الدولي بحدوث تلك الأحلام. فلا جدال أن أحلام أردوغان يقف ضدها تدهور علاقاته وانعزال الموقف التركي مع التهديد الماثل بفرض عقوبات عليها من قبل كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلى جانب رفض أغلب دول الإقليم هذه السياسة التوسعية التركية.
السؤال الآن ما هي الاحتمالات الماثلة أمام محاولة التغلب على مشكلات الاقتصاد التركي المتعددة من عجز مزمن في ميزان المعاملات الجارية وتدهور في سعر الصرف وارتفاع في معدلات التضخم والبطالة والمديونية الخارجية؟ والواقع أن الإجابة التي يشير إليها الكثير من المراقبين هي أنه لا مناص من لجوء تركيا إلى صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل والاتفاق على برنامج "إصلاح هيكلي"، ولكن هنا أيضا يتخذ أردوغان موقفا معارضا على طول الخط، ويرى في الاتفاق مع الصندوق استعمارا اقتصاديا لتركيا. لكن كما اضطر للموافقة على رفع أسعار الفائدة بعد فترة طويلة من العناد، قد يضطر إلى عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي إذا ما استمرت الأوضاع الاقتصادية في مزيد من التدهور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة