ألقت واقعة القس برانسون بظلالها على مؤسسة القضاء في تركيا ولوثت سمعتها وشككت في نزاهتها، وأثبتت زيف المزاعم التي أطلقها أردوغان.
في الرابع من أغسطس الماضي كتب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حسابه على تويتر تغريدة حمّلها جميع معاني الكبرياء الزائف والكرامة الوطنية المصطنعة، ولعب فيها على مشاعر الانتماء الوطني لدى تابعيه في محاولة بائسة للالتفاف حول أزمة خانقة كادت أن تطيح بعرشه، في هذه التغريدة التي كتبها رداً على الضغوط الأمريكية الداعية إلى إطلاق سراح القس الأمريكي المحتجز في تركيا منذ عامين أندرو برانسون. قال أردوغان "إن من يظنون أن بإمكانهم ردعنا باستخدام لغة التهديد أو فرض عقوبات لم يعرفوا هذا الشعب بتاتاً، من الواضح أن من يتهموننا بعدم معرفتنا بحيثيات النظام الأمريكي لا يعرفون شيئاً عن تاريخ أمتنا، ونحن لن ننحني بتاتاً لهذا النوع من الضغوطات".
في الوقت الذي سيستقبل فيه ترامب غدا في البيت الأبيض "قس أمريكي رائع" حسب وصفه و"مسيحي محافظ" من الذين يشكلون قاعدة انتخابيه مهمة له، سيشاهد جولن زعيم حركة "الخدمة" والمطلوب الأول لدى أردوغان فعاليات هذا اللقاء من تلفاز منزله في ولاية بنسلفينيا وهو مطمئن.
وبعد نحو شهرين من هذه التغريدة كانت تركيا قد "انحنت تماماً لهذا النوع من الضغوطات" التي مارسها ببراعة شديدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد أن تم أمس إطلاق سراح القس المحتجز الذي غادر إلى بلاده في نفس اليوم، في واقعة تحمل الكثير من الدلالات كما تعكس الكثير من الحقائق التي يمكن إيجازها فيما يلي:
أولاً: رسخت هذه الواقعة من حقيقة أن أردوغان هو رجل التراجع بامتياز في اللحظات الحرجة وفي الأمتار الأخيرة في أي أزمة يديرها مع دولة كبرى، وأنه لا يستطيع تحمل ضغوط أضخم من حجمه وأكبر من قدراته مهما بالغ فيها أو حاول تضخيمها، فلم تكن هذه هي الأزمة الأولى التي يبدأها بتصريحات عنترية ويعلن فيها التحدي والندية ثم ينهيها بتراجع مذل ومخزٍ، ففي أزمته مع روسيا التي أعقبت إسقاط الجيش التركي لطائرة لسلاح الجو الروسي في نوفمبر 2015 بدأ أردوغان الأزمة بإعلانه التحدي ورفضه تقديم أي أعتذار للجانب الروسي، ما دفع موسكو إلى فرض قيود تجارية وعقوبات اقتصادية كبيرة على أنقرة قال عنها بوتين إنها لن تلغى إلى أن يعتذر أردوغان عن الحادث، وهو ما رفضه الأخير، إلا أن تأثير الأزمة بشكل كبير على الاقتصاد التركي، لا سيما قطاع السياحة مع تراجع أعداد السياح الروس بنسبة 87% خلال النصف الأول من عام 2016 ، دفعت أردوغان إلى أن يرضخ في النهاية وينهي الأزمة بزيارة إلى موسكو في أغسطس 2016 ورسالة اعتذار إلى بوتين أعرب فيها عن أسفه العميق لحادث إسقاط الطائرة، مطالباً بـ"فتح صفحة جديدة في العلاقات الروسية التركية".
مسلك أردوغان في التعامل مع ضغوط القوى الدولية الكبرى التي يحاول أن يناطحها في البداية ثم لا يلبتث أن ينبطح أمامها ينطبق أيضاً على تعامله مع القوى الإقليمية، فمن ينسى تصريحاته العنترية التي أعقبت الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو الماضي والتي قال فيها "لن يحدث تحسن في العلاقات مع إسرائيل ما دمت رئيسا لتركيا"، لكن بعدها بأشهر قليلة كشفت الصحف الإسرائيلية عن اتصالات سرية تجريها أنقرة مع تل أبيب لإعادة تطبيع العلاقات بين الدولتين، سبقتها بتعيين ملحق اقتصادي تركي في إسرائيل بعد شغور المنصب لعدة أعوام بهدف توطيد العلاقات بين الدولتين.
ثانياً: ألقت واقعة القس برانسون بظلالها على مؤسسة القضاء في تركيا ولوثت سمعتها وشككت في نزاهتها، وأثبتت زيف المزاعم التي أطلقها أردوغان طوال الأزمة بأن القضاء التركي مستقل، وأن "القضاء، لا الساسة، هو من سيقرر مصير القس"، وأنه "لا يمكن لأحد التدخل في قرارات الأجهزة القضائية، بما في ذلك رئيس الجمهورية"، لكن جاءت الطريقة التي انتهت بها الأزمة لتثبت أن القضاء التركي أصبح بين أصابع أردوغان يحركه كما يشاء وفقاً لأهوائه، فالجلسة الأخيرة من محاكمة القس شهدت تغيير 4 شهود أقولهم، وتراجعوا عن إفاداتهم السابقة ضده دفعة واحدة، وقالوا إنه إما أسيء فهمهم، أو إن ما ذكروه سمعوه من وسائل إعلام، وبناء على ذلك تم إطلاق سراحه، وقبل الجلسة بيوم كامل كان العالم أجمع يعرف ما ستنتهي إليه بعد أن أرودت محطة "إن.بي.سي نيوز" الأمريكية خبراً مفاده أن الولايات المتحدة وتركيا، توصلتا الشهر الماضي لاتفاق يطلق بموجبه سراح برانسون، وتسقط اتهامات بعينها موجهة له خلال الجلسة المقبلة من محاكمته، وهو ما كان، مسألة استقلال القضاء التركي لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستلقي بظلالها مستقبلاً على قضايا عدة أبرزها التأثير على فرص تركيا القليلة أصلاً في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعد أن أثبتت واقعة رجل الدين الأمريكي أن القضاء التركي أصبح بعيداً كل البعد عن الاستجابة لمعايير الاتحاد الأوروبي الخاصة بالعدالة واستقلال القضاء، كذلك تلقي هذه القضية الضوء على مئات الأتراك من خصوم أردوغان والمحتجزين أو المدانين بتهم زائفة أو كيدية على خلفية محاولة الانقلاب الوهمي في يوليو 2016.
خلاصة القول إن سياسة العصا الغليظة التي اتبعها ترامب مع أردوغان قد نجحت وأرغمته على الإذعان وتقديم تنازل كبير مس سمعة ونزاهة قضائه دون أن يحظى بأي مقابل ولو صغير، فما كان ينشده أردوغان من صفقة يطلق فيها سراح القس الأمريكي مقابل تسليم أمريكا لغريمه وخصمه فتح الله كولن ظل حبيساً لأوهامه وجنون عظمته، ففي الوقت الذي سيستقبل فيه ترامب غداً في البيت الأبيض "قس أمريكي رائع" حسب وصفه و"مسيحي محافظ" من الذين يشكلون قاعدة انتخابيه مهمة له، سيشاهد غولن زعيم حركة "الخدمة" والمطلوب الأول لدى أردوغان فعاليات هذا اللقاء من تلفاز منزله في ولاية بنسلفينيا، وهو مطمئن تماماً أن عودة برانسون إلى بلاده لا تعني مغادرته لها، فخصمه أضعف من أن يفرض هكذا صفقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة