لم يكن تميم في حاجة إلى رد الجميل لمعرفته أن ما قدمه أردوغان لا يستحق ما تم دفعه.
تساءلنا في المقال السابق عن الأسباب التي تدفع دولة تعاني من أزمة اقتصادية خانقة جراء سياساتها المتهورة مثل قطر، إلى الهرولة لمنع انهيار اقتصاد دولة أخرى مثل تركيا؟
معظم التحليلات ذهبت في الإجابة على هذا السؤال إلى أن الدوحة بضخها استثمارات تقدر بـ15 مليار دولار في الاقتصاد التركي كانت ترد جميل أنقرة التي سارعت إلى إقامة جسر جوي قبل عامين لتزويد قطر بكل احتياجاتها من البضائع والمواد الغذائية، تضامنا معها في مواجهة المقاطعة العربية الرباعية لها، بالإضافة إلى التصديق على اتفاقية تسمح بإرسال 5 آلاف جندي تركي إلى الدوحة فورا.
لم يكن تميم في حاجة إلى رد الجميل لمعرفته أن ما قدمه أردوغان لا يستحق ما تم دفعه، كذلك يعلم أردوغان أن ما قدمه تميم لن يكفي لإصلاح ما أفسدته سياساته وغطرسته وفساده..
هذه الإجابة السهلة التي خلص إليها عدد كبير من المحللين تثير بدورها بعض التساؤلات التي قد تؤدي الإجابة عليها إلى الوقوف على الأسباب الحقيقية للمسلك القطري حيال الأزمة التركية، أولى هذه التساؤلات يتعلق بتحديد ماهية الجميل الذي أسدته أنقرة إلى الدوحة، وهل كان يستحق هذا الثمن الباهظ الذي دفعته قطر من قوت شعبها وفي ظل استحكام أزمتها الاقتصادية؟ وهل يستحق ما قد تدفعه قطر من ثمن في علاقاتها مع القوى الكبرى، نتيجة تقويضها لحملة ضغط متواصل تنفذها واشنطن ضد الرئيس التركي وتحديها للرئيس الأمريكي ترامب شخصيا وخططه لتقويض الاقتصاد التركي، لإجبار أردوغان على تسليم القس الأمريكي المعتقل دون مقابل؟ وهل كانت تركيا في حاجة بالفعل إلى تدخل قطر لإنقاذ عملتها من الانهيار ومنع اقتصادها من الغرق؟
بداية، يمكن القول إنها كانت المرة الأولى في تاريخ تركيا التي يلجأ فيها الرئيس لطلب العون المالي من دولة عربية، لكن هذا العون المالي الذي قدمته قطر "لم يؤثر على سعر الليرة إلا لأقل من ساعة، حيث تحسن إلى سعر 5.86 ليرة مقابل الدولار ثم عاد بعدها إلى سعر الصباح البالغ 6.02، أي أن التدخل القطري لم يساعد تركيا على تجاوز أزمة تراجع قيمة عملتها، وربما كان هذا معلوما ومتوقعا لدى أردوغان عند طلبه المساعدة من قطر لمعرفته بأن هناك أسبابا سياسية واقتصادية أعمق للأزمة لن يجدي معها طلب مساعدة عاجلة من دولة حليفة، وهنا فإن الدافع الحقيقي لطلب المساعدة من قبل أردوغان وتقديمها بسرعة من قبل تميم يظل في تقديري هو إثبات أنهما غير معزولين دوليا والبرهنة على قدرتهما على الحفاظ على الرباط المقدس جمعهما طول السنوات العشر الماضية، والمتمثل في رعايتهما لتنظيم الإخوان المسلمين، وما تفرع عنه من فصائل إرهابية مسلحة تنوعت أسماؤها، من القاعدة إلى داعش إلى جبهة النصرة وغيرها، ظلت جميعها تتلقى من قطر وتركيا دعما ماليا وسياسيا وإعلاميا مثبتا وموثقا، أعتقد أن هذا السبب الحقيقي الذي جعل من أردوغان أول رئيس تركي يطلب مساعدة مالية من دولة عربية، وهو ما جعل قطر الدولة الوحيدة في العالم التي تهب لنجدة تركيا من أزمتها الاقتصادية الحادة، أما الحديث عن الجميل ورده فأعتقد أن لا محل له من الإعراب في هذه المعادلة، فالدولتان تعرفان أكثر من غيرهما أن تركيا لم تقدم لقطر بعد مقاطعتها عربيا وخليجيا العام الماضي، شيئا يستحق من دعاوى الحماية تجاه الأخطار المزعومة والمفبركة التي ادعتها الدوحة، فلم تنطو على أحد مزاعم احتلال قطر من قبل دول مجاورة، بعد أن أثبتت تقارير غربية أن الموضوع برمته تم صياغته داخل أروقة المخابرات القطرية، كذلك ما أعلنت عنه أنقرة عقب المقاطعة العربية لقطر عن إرسالها جنودا أتراك لحماية قصر الحكم في الدوحة، كانت مجرد حركة دعائية استعراضية لكون قطر محمية أصلا من القاعدة العسكرية الأمريكية في "العديد"، ولو احتاجت للحماية فلن تنفعها قاعدة تركية صغيرة في "الريان"، وبالتالي لم يكن تميم في حاجة إلى رد الجميل لمعرفته أن ما قدمه أردوغان لا يستحق ما تم دفعه، كذلك يعلم أردوغان أن ما قدمه تميم لن يكفي لإصلاح ما أفسدته سياساته وغطرسته وفساده..
إذن هي إشارات معنوية متبادلة بين الطرفين وفي الاتجاهين بأنهما غير معزولين وأن تحالفهما الأساسي والحقيقي سيبقى صامدا في دعم وتوظيف الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة الرافعة لرايته، ووضع قدراتهما الاقتصادية لخدمته، حتى وإن جرى استنزاف هذين الاقتصادين ووصل أحدهما إلى مشارف الانهيار، فيما يعاني الآخر ضغوطا كبيرة غير مسبوقة مع استمرار عزلته خليجيا وعربيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة