حلقات مسلسل استنزاف أموال الشعب القطري لن تتوقف عندما تم إهداره على أعتاب قصر السلطان العثماني.
على الرغم من أن تركيا تعد خامس أكثر دول العالم من حيث عدد البعثات الدبلوماسية في الخارج، حيث تمثلها 239 بعثة في نحو 139 دولة، إلا أن ما بدا غريباً أنه من بين هذا العدد الكبير من الدول التي تتبادل معها تركيا العلاقات الدبلوماسية.. كانت قطر هي الدولة الوحيدة التي هبت لنجدتها من أزمتها الإقتصادية الحادة، بعد أن هرول أميرها إلى زيارة أنقرة في أغسطس الماضي، وأعلن خلال لقائه أردوغان أن بلاده ستقدم لتركيا استثمارات مباشرة بمبلغ 15 مليار دولار في شكل مشاريع مختلفة، أملاً في إنقاذ تركيا من انهيار اقتصادي كان متوقعاً بعد أن هوت قيمة عملتها إلى أدنى مستوى في تاريخها أمام الدولار الأمريكي، ولعل مرد الاستغراب هنا أن الدولة التي حاولت تقديم طوق النجاة لإنقاذ الاقتصاد التركي من الغرق تعاني بدورها من أزمة اقتصادية خانقة جراء المقاطعة العربية لها نتيجة سياساتها الراعية للإرهاب والداعمة للتنظيمات المتطرفة، تلك الأزمة التي دفعت الحكومة القطرية إلى سحب ما قيمته 5 مليارات دولار من ودائعها في البنوك المحلية، خلال يوليو الماضي، لسد نقص السيولة التي تتفاقم منذ مقاطعة الرباعي العربي للدوحة، كما دفعت بنوكها إلى بحث خيار الاندماج بينها مجدداً لتعويض خسائرها ومواجهة أزمات ضعف العمليات التشغيلية والسيولة وتباطؤ الأرباح، منذ دخول مقاطعة الرباعي العربي للدوحة حيز التنفيذ.
إلى متى سيظل الشعب القطري يدفع من ثرواته ومقدراته ثمنا لقرارات حكومته المتهورة وتبنيها لسياسات هدامة، ونسجها لتحالفات مع قوى الشر في المنطقة، وابتعادها عن من هم أولى بقربها في محيطها الطبيعي خليجياً وعربياً، واقترابها بمن يريد امتصاص ثروات شعبها؟
هذه المفارقة المؤلمة تثير الكثير من التساؤلات أبرزها: ما الذي يدفع دولة في حاجة كبيرة إلى النقد الأجنبي لتمويل نفقاتها الجارية والإبقاء على ودائعها عند مستويات آمنة في البنوك المحلية إلى تبديد أموال شعبها لإنقاذ نظام دولة أخرى؟ كيف لدولة مأزومة أن تفعل ذلك وهي التي اضطرها قرار المقاطعة للحصول على نحو 20 مليار دولار أمريكي عبر إصدار سندات وصكوك وأذونات خزانة؛ منها 12 مليار دولار سندات أجنبية، وهو أكبر طرح في تاريخ قطر؟
في محاولة للبحث عن إجابة منطقية عن هذه التساؤلات التي أثارتها القرارات اللامنطقية للنظام القطري يمكن القول ابتداءً أن تركيا حليف طبيعي لقطر بفعل تبني حكومتي البلدين لنفس السياسات الداعمة للإرهاب والممولة للتنظيمات المتطرفة، والداعمة لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية والحركات التابعة لها، واحتضانهما عدداً كبيراً من الشخصيات البارزة في هذا التنظيم، ولعل هذا ما دفع تركيا إلى إقامة جسر جوي قبل عامين لتزويد قطر بكل احتياجاتها من البضائع والمواد الغذائية تضامناً معها في مواجهة المقاطعة العربية الرباعية، بالإضافة إلى التصديق على اتفاقية تسمح بإرسال 5 آلاف جندي تركي إلى الدوحة فوراً.
هذا الدعم لم يكن بلا مقابل، كانت تركيا فقط تنتظر الوقت المناسب لكي تطلب الثمن، لذا فور اندلاع أزمتها الاقتصادية ذكرت أنقرة حليفها بأنه قد آن الأوان لرد الجميل، وبعد أن تأخر تنظيم الحمدين في الاستجابة لجأ أردوغان إلى الصحف المقربة منه لتذكيرهم بما يجب عليهم القيام به، فنشرت صحفية "تقويم" في أغسطس الماضي تقريراً قالت فيه إن حالة من الإحباط تسود المجتمع التركي حالياً بسبب "الصمت القطري" تجاه الأزمة التي تعصف بالاقتصاد التركي جراء قرار العقوبات الأمريكية ضد أنقرة.
وذكرت الصحيفة في تقريرها أن الصدمة التي وصفتها بأنها "غير متوقعة" كانت من طرف قطر التي بدلاً من أن تدعم أنقرة اختارت أن تبقى صامتة تجاه ما يحدث في تركيا، رغم أن تركيا كانت من أوائل الداعمين لقطر خلال المقاطعة، واعتبرت الصحيفة أن ما قامت به قطر "خيانة عظمى" بحق حليف سارع للدفاع عنها، وفور نشر هذا التقرير هرول تميم إلى زيارة أنقرة والتقى أردوغان وقدم فروض الولاء وتعهد بتقديم 15 مليار دولار كاستثمارات سخية في السوق التركية.
إذن يمكن تفسير رضوخ الدوحة لانتقادات أنقرة بأنه جاء تحت ضغط الحفاظ على حليف مهم يتبنى نفس سياساتها المدمرة، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب القطري وبأمواله، فوفقاً لمقال بموقع "ذا أمريكان إنتريست" فإن المبلغ الذي تعهد تميم بتقديمه لأردوغان حفاظاً على تحالفه معه يعادل اقتطاع 420 ألف دولار من جيب كل أسرة قطرية، وقد تم إنفاقه بأسوأ طريقة ممكنة، ليس هذا فحسب، بل إنه استكمالاً لمسلسل الاسترضاء الذي يبدو أن حلقاته لن تنتهي قريباً، أهدى تميم طائرة بيونج فاخرة من طراز 8-747 للرئيس التركي، لتنضم إلى أسطوله الذي يضم 11 طائرة، ووفقاً للصحافة التركية فإن "هذه الهدية من الأمير تميم تأتي تعبيراً عن حبه وثقته في تركيا وأردوغان"، بعد أن أعرب الأخير عن اهتمامه بالطائرة التي وصفت بـ"القصر الطائر" إثر عرضها للبيع مقابل 400 مليون دولار بعد 3 سنوات فقط من شرائها.
أخيرا يمكن القول إن حلقات مسلسل استنزاف أموال الشعب القطري لن تتوقف عندما تم إهداره على أعتاب قصر السلطان العثماني، فهناك حليف آخر يبدو أنه سيطالب قريباً بتسديد فاتورة اقترب موعد استحقاقها، ولعل ما قدمه النظام القطري استرضاء لتركيا ورداً لجميلها المزعوم سيشجع بدوره نظاماً مأزوماً آخر في طهران، على أن يطلب من قطر أن تعامله بمثل ما عاملت به نظام أردوغان، وألا تكون أقل كرماً وسخاء، وبالتالي فليس مستبعداً أن يبدأ نظام الملالي قريباً في مطالبة تنظيم الحمدين بدفع ثمن حمايته، لا سيما في أن طهران ألمحت من قبل بأن حمايتها للنظام القطري لن تكون مجانية، ففي مايو 2017 طالبت إيران صراحة قطر بما وصفته بـ"رد الجميل" لها بعد أن فتحت أجواءها أمام الطيران القطري، وذلك في تصريحات للرئيس التنفيذي للمطارات والملاحة الجوية في إيران رحمت الله مه آبادي، أن على الدوحة "عدم نسيان الموقف والدعم الإيراني منها حتى في حال تمت تسوية الأزمة مع الدول الخليجية".
وهنا يبقى السؤال: إلى متى سيظل الشعب القطري يدفع من ثرواته ومقدراته ثمناً لقرارات حكومته المتهورة وتبنيها لسياسات هدامة، ونسجها لتحالفات مع قوى الشر في المنطقة، وابتعادها عن من هم أولى بقربها في محيطها الطبيعي خليجياً وعربياً، واقترابها بمن يريد امتصاص ثروات شعبها، واستعدائها لمن هم أولى بصداقتها، وصداقتها لمن هم أولى بعدائها؟ أعتقد أن الشعب القطري وحده هو من يستطيع الإجابة عن هذا السؤال.
ولنا عودة في المقال المقبل إن شاء الله لاستكمال ما بدأناه في هذا المقال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة