المال القطري يستطيع شراء الولاءات والصداقات هنا وهناك، لكنّه لن يتمكن من استرجاع قلوب أشقائه العرب.
منذ أجهزت قطر على خيط الأخوة مع شقيقاتها الخليجيات، ومصر كذلك، وهي تمضي بعلاقاتها مع تركيا نحو مزيد من التقارب؛ ظنا منها أن أنقرة ستكون البديل لذلك .
بالفعل من الممكن أن تكون تركيا بزعامة رئيسها الحالي رجب طيب أردوغان بديلا، لكن ليس للشعب القطري، وإنما لحكام الدوحة بعيدا عن شعبهم الذي يدفع ثمن سياسة لم يكونوا لاعبين أساسيين فيها، بدءا من دعم الجماعات المتطرفة كـ"النصرة وأخواتها "وليس انتهاء برعاية "تنظيم الإخوان المسلمين" واستقبال قياداته، وتأمين الحماية لهم، وتقديم مايلزم ليستمر هؤلاء في تحريض الشعوب ودفع الشباب نحو التهلكة، كما فعل يوسف القرضاوي من خلال فتاويه المحرضة على القتل والكراهية.
المال القطري يستطيع شراء الولاءات والصداقات هنا وهناك ولكنّه لن يتمكن من استرجاع قلوب أشقائه العرب المتوجعين كثيرا من تصرفات الحكومة القطرية وسعيها الدائم لنشر الفوضى في مصر وسوريا وليبيا والسعودية والإمارات
مايجري بين قطر وتركيا من "علاقات قوية "بزعم الطرفين حدث مشابه له في الماضي، حين وثق الرئيس السوري بشار الأسد بنظيره التركي وفتحت دمشق أبوابها عريضة لأردوغان وحكومته، حتى أن الأخير بات تستهويه كثيرا زيارة حلب؛ ليتناول طبقها المشهور عالميا "الفول الحلبي"، لم يقف الأمر عند هذا فحسب، بل قامت دمشق بفتح أسواقها أمام البضائع التركية؛ مما زاد مؤشر الحركة الاقتصادية لدى أنقرة، وانعكس ذلك استقرارا كانت تركيا بحاجة له، في ظل اقتصاد ليس له مقومات تحميه حال تعرضه للأزمات، وهذا مايحدث الآن (لاحظ استمرار انخفاض قيمة الليرة التركية ،وعدم مقدرة الحكومة التركية على إيجاد حلول ناجعة).
في الواقع لم ينتظر الرئيس التركي طويلا ليغدر بحليفه الأسد، ويُغرق سوريا بالعناصر المتطرفة التي كانت تأتي من كل حدب وصوب لتخلص السوريين من الظلم كما كانت تقول، لم يتأثر الأسد كثيرا على الصعيد الشخصي، لكنّ السوريين دفعوا ثمن سياسة الانفتاح على تركيا دما مازال ينزف حتى هذه اللحظة.
مافعله أردوغان في سوريا سيكرره في قطر حين تأتيه الفرصة المناسبة لذلك. الرجل يلعب دور السياسي المؤمن حقا بأنّه في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة، وعلى هذا الأساس تتبدل مواقف الرئيس التركي من حين إلى آخر بشكل ما عاد المرء يعرف وجها حقيقيا للسياسة التركية، ولا إلى أين ستتجه وترسو، وهذا ما حدث واقعا في علاقته مع روسيا عقب إسقاط الطائرة الروسية فوق الأراضي السورية، حينها هدد وتوعد وأزبد وأرعد بأنّه لن يسمح لموسكو بتجاوز حدودها وهذا ما لم يكن صحيحا، فلم تكد تمر أشهر قليلة حتى حطت طائرة أردوغان في روسيا معتذرا لنظيره الروسي فلادمير بوتين، طالبا السماح والقبول بما يقرره زعيم الكرملين فيما يخص الملف السوري.
لن يخدم الشعب القطري انفتاح حكومته وتفضيلها الأتراك على الاعتراف بأخطائها تجاه الدول العربية بشكل عام، والخليجية منها على وجه الخصوص.
من الظلم القول بأن القطريين راضون عما تمارسه حكومتهم ولا تزال؛ فهم لاشكّ تواقون للعودة إلى حاضنتهم العربية؛ لما رأووه في الفترة الماضية من عزلة، ستؤثر عاجلا أو آجلا على الأجيال القادمة، لسبب واحد فحسب وهو أن المال القطري يستطيع شراء الولاءات والصداقات هنا وهناك، لكنه لن يتمكن من استرجاع قلوب أشقائه العرب المتوجعين كثيرا من تصرفات الحكومة القطرية، وسعيها الدائم لنشر الفوضى في مصر وسوريا وليبيا والسعودية والإمارات.
لابد للشعب القطري إدراك خطورة ما ترتكبه سياسة حكومته المكابرة والمتعالية على الاعتذار، والاعتراف بالأخطاء قبل فوات الأوان، وإن ظنت بأن توجهها إلى تركيا سينقذها مما هي فيه؛ فهي واهمة؛ فالتجارب الماضية أثبتت عدم صدقية أردوغان وغدره بأعز أصدقائه في الداخل والخارج، وهذا ما فعله مع أستاذه نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء التركي الأسبق الذي وصف أردوغان عام 2010 بعميل الصهيونية عقب استثماره للعلاقة مع أربكان، وحصد شعبية كبيرة بين الأتراك لم تكن لولا ادعائه بأنّه -أي أردوغان-تلميذ أربكان، وكذلك إبعاده صديقيه المقربين الرئيس التركي السابق عبدالله غل، ووزير خارجيته ومهندس سياستها السابق أحمد داود أوغلو، وحصده ما نجحا به على مستوى العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى، والصعود على كتفهما لنيل مبتغاه، والسيطرة على البلاد منفردا، وهذا ماكان له حين غير الدستور وبات الحاكم مطلق الصلاحيات.
لايمكن للشعب القطري التعويل كثيرا على رجل متلون يغير جلده في اليوم مرتين أو أكثر، ضاربا عرض الحائط بكل المواثيق والعهود التي يقطعها على نفسه، فهو يقول ما لايفعل، ويفعل ما لايقول، وهذا لن يكون في صالح القطريين الراغبين بالاستقرار في محيط عربي آمن بعيد عن المنغصات، لذلك لا توصَف العلاقة بين قطر وتركيا بالاستراتيجية، وإنما مرحليه يستثمر كلّ طرف الآخر لحين نفاد صلاحيته، حينها يمكن القول بأن مايجمع أنقرة والدوحة علاقة من ملح، ستنهار لحظة مرور الماء عليها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة