ثمة أمر أخطر بكثير من الإجراءات العسكرية المتبعة من السلطات التركية تكمن في تغيير هوية المنطقة ثقافيا وإيديولوجيا
عندما يتدخل بلد في شؤون بلد آخر بأي صفة كانت فإن هذا التدخل لا بد من أن ترعاه معاهدات واتفاقات بين البلدين، أو الدخول تحت غطاء قانوني أممي وفق قانون يضمن ألا يتعدى التدخل الحدود الإنسانية وفرض السلام والأمان، ولكن التدخل التركي في الشمال السوري لم يتم وفق أي من هذه المسميات، بل إنه وجد بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع بحجج واهية كمحاربة الإرهاب وفق تعريفها فحسب.
الأتراك لا حدود لأطماعهم في الشمال السوري إلا ضمه إلى تركيا كأرض تابعة لها واحتلال كامل، فبدأت بفرض الخارطة العسكرية والآن الخارطة الثقافية التعليمية وفيما بعد الخارطة السيادية، وهم ينتظرون لحظة يستطيعون فيها القول إن هذه الأراضي تركية وليس سورية كما فعلوا من قبل بـ"لواء الإسكندرون"
ليس من المبالغة وصف ما تقوم به أنقرة في الأراضي السورية بالاحتلال المباشر، وما يؤكد هذه التسمية ممارسة الأتراك سياسات تركية بحتة في مناطق ليست لهم، بل هي مناطق سورية، متجاهلين أن سوريا دولة عضو في الأمم المتحدة معترف باستقلالها وحدودها.
ما يسمى بـ"عملية درع الفرات" العسكرية عام 2016م كانت البداية الفعلية لبدء أنقرة سياستها قضم الشمال السوري، بإعطائها لحظة بدء التحرك بإشراف وسلاح تركي، ومساندة بعض الفصائل السورية المدعومة منها، للقضاء على من تصفهم حكومة أردوغان بالمتمردين الأكراد.
في الواقع لم يمر أكثر من عامين على إطلاق درع الفرات حتى بدأ الأتراك عملية "غصن الزيتون" مطلع عام 2018م، وبأسلوب الأول نفسه، إلا أن الأتراك في هذه المرة دخلوا بشكل مباشر وبجنود وعتاد وضباط أتراك، ولم يكن للفصائل الموالية دور سوى تنفيذ أوامر الأتراك، مما يشكل الحجر الأساس في إيضاح المطامع التركية ومطامع أردوغان السلطوية بأنه يتصرف كمحتل لهذه المناطق، لتنتهي العملية العسكرية باحتلال عفرين وتهجير الكثير من سكانها.
رغم التحذير الأمريكي من مغبة التحرك التركي باتجاه منبج إلا أن الرادع غير جاد في صراخه، وإلا لما أقدم أردوغان على رفع صوته عاليا باحثا عن امتيازات وتنازلات أمريكية روسية لفرض سيطرته على منبج وما حولها، في محاولة لتوحيد مناطق احتلاله من عفرين إلى جرابلس بحكم السيطرة العسكرية والقوة المفروضة كأمر واقع.
ثمة أمر أخطر بكثير من الإجراءات العسكرية المتبعة من السلطات التركية، تكمن في تغيير هوية المنطقة ثقافيا وإيديولوجيا، فعلى الصعيد الإداري يسعى الرئيس التركي إلى تمكين سلطانه في المناطق بفتح تجمعات إدارية كالمدارس والمراكز التموينية والمساعدات الطبية والغذائية والتعليمية والشرطة المدنية وغير ذلك، واللافت في الأمر أن كل هذه المراكز والمؤسسات بإدارة تركية خالصة وفرض قوانين تركية، بل حتى فرض الأعلام التركية والتسميات الإدارية التركية على تلك المناطق، والتداول بالعملة التركية، حتى وصل الأمر إلى فرض المناهج التعليمية التركية على مدارس تلك المناطق لتكريس المبادئ والثقافة التركية على حساب الثقافة العربية ومبادئ العروبة فيها، وفرض أسماء الجنود الأتراك الذين قتلوا في معارك سوريا على مدارس تلك المناطق لتمجيدهم كأبطال وأمناء للأمة المزعومة تركياً.
ليس هذا فحسب.. بل تتعمد أنقرة تعيين المعلمين في المدارس حسب شدة الولاء لتركيا، وتحفيزهم بمنح دراسية في الجامعات التركية لشراء الولاءات منهم، ووضعهم تحت سيطرتها التامة التي لا يمكنهم الفكاك منها, ويضاف إلى كل ذلك تكريس الأفكار الحزبية لأردوغان وحزبه بدعم الفكر الإخواني في تلك المناطق، لنشر هذه المبادئ وفرضها كفكر أصيل لا يمكن نزعه منها.
نستطيع القول إن كل هذه المؤشرات تدل على أن الأتراك لا حدود لأطماعهم في الشمال السوري إلا ضمه إلى تركيا كأرض تابعة لها واحتلال كامل، فبدأت بفرض الخارطة العسكرية والآن الخارطة الثقافية التعليمية وفيما بعد الخارطة السيادية، وهم ينتظرون لحظة يستطيعون فيها القول إن هذه الأراضي تركية وليس سورية، كما فعلوا من قبل بـ"لواء الإسكندرون" المحتل تركيا إلى يومنا هذا.
ما لم يستطع أجداد أردوغان فعله بفرض سياسة التتريك على البلدان العربية يكمله هو وإن كان بطريقة غير مباشرة، متخذا من تحرير القدس وحماية الدين الإسلامي ونصرة المستضعفين ومساندة السوريين وغيرها من العناوين اللماعة شماعة يعلق عليها مشاريعه التوسعية، يساعده بذلك طيف ليس بالقليل من أبناء الأمة العربية، سيرا وراء عقيدتهم العابرة حدود أوطانهم، وهذا ما يجب التنبه له والوقوف بوجهه وإعداد البرامج السياسية والتنموية في آن واحد لإنقاذ سوريا أولا وباقي البلدان العربية من الأطماع العثمانية الجديدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة