كان من المتوقع أن توقف الأسرة الحاكمة في قطر حملاتها المسعورة على الجميع وتتعقل أمورها وتستمع لصوت العقل
من أبرز ما تمخضت عنه القمة التاسعة والثلاثون لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، المنعقدة في الرياض يوم 9 ديسمبر 2018، تحذيراً من حكيم الكويت وعميد الحكام العرب الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الذي يمارس السياسة منذ أن كان دون العشرين عاما.. كان وزيراً للخارجية في ستينيات القرن الماضي، عايش التقلبات العربية، ويدرك بعمق تجربته وعميق حكمته مآلات الأمور وصيرورة الأزمات، وما يمكن أن تنتهي إليه تداعياتها المنظورة وغير المنظورة، وهو ما لا يستطيع الوصول إليه من هو حديث عهد بالحكم والسياسة، لا يصلح أن ينال شرف أن يكون حفيداً لمن هو في مقام حكيم الكويت.
ما قام به سفيه قطر، الذي غرد على تويتر بكلام شخصي عن المغفور له الشيخ زايد، يمثل ضربة في قلب منظومة القيم العربية، وينذر بانهيار قيمي كامل، لأنه لم تعد هناك خطوط حمر، وسيفتح الباب على مصراعيه لانفجار غير أخلاقي لن يسلم منه أحد.. وهذا ليس في مصلحة أحد
جاء في كلمة الشيخ صباح ما نصه "لتجنب المصير المجهول لمستقبل عملنا الخليجي فإننا ندعو إلى وقف الحملات الإعلامية التي بلغت حدوداً مست قيمنا ومبادئنا، وزرعت بذور الفتنة والشقاق في صفوف أبنائنا، وستدمر كل بناء أقمناه، وكل صرح شيدناه". صرخة شيخ قارب التسعين عركته السياسة وعركها، يخاف على أهله وأبناء قومه، كان من المتوقع أن يستمع إليها الجميع، خصوصاً كل أصناف البوم والغربان من النائحات والنائحين، المستأجرات والمستأجرين، الذين يطوفون حول قصر الوجبة في الدوحة، كان من المتوقع أن توقف الأسرة الحاكمة في قطر حملاتها المسعورة على الجميع وتتعقل أمورها، وتستمع لصوت العقل الذي كان دائما يربت على كتف أحفاده حكام قطر الحاليين، ولكن للأسف جاء الرد من قطر على العكس تماما، وكأن مستوى العقل هناك فهم كلام حكيم الكويت مقلوبا ومعكوساً، فخرج من أعضاء الأسرة الحاكمة الذين يستحيل أن يتفوه أحدهم ببنت شفة دون إذن الأمير الكبير أو الصغير، ليفجر الموقف ويتطاول على حكيم العرب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي يستحيل أن تجد في العالم شخصا يكن له شعوراً سلبياً، الذي قضى حياته في خدمة الجميع، لم يتخذ موقفاً انفعالياً، ولم يبادر أحداً بالعداء، وكان يسخر ثروات بلاده لنشر الخير والتنمية والعمران في مختلف بقاع الدنيا.
لقد كان الرد القطري على حكيم الكويت رداً أحمق وسفيهاً، والحمق هنا وصف وليس سباباً، لأنه ليس من أخلاقي السباب، فالأحمق شخص له أهداف جيدة ومقبولة ووسائله لتحقيقها غاية في الرداءة والسوء، والسفيه من يتطاول على الناس، ولا يدرك مرامي كلماته، ولذلك كانت دعوة الإمام الشافعي "إذا نَطَقَ السَفيهُ فَلا تَجِبهُ، فَخَيرٌ مِن إِجابَتِهِ السُكوتُ". وهنا أصبح تخوف وقلق حكيم الكويت حقيقة واقعة، لقد اندفعت الأسرة الحاكمة في قطر نحو تدمير الأخلاق والقيم في الخليج والعالم العربي، بعد أن أنفقت ثروات دولتها على تدمير الدول، وإسقاط النظم، وتفكيك المجتمعات.
من أهم أخلاق العرب: احترام كبير السن، وتقدير الموتى، وعدم التحدث عنهم بأي سلبية، وعدم المساس بالقادة والرموز والزعماء والحكام، ليس العرب وحدهم، فالعالم مجمع على هذه القيم، لا يستطيع أحد أن يذكر الحكام السابقين والزعماء الراحلين بأي شيء فيه مساس بكرامتهم وأشخاصهم ومكانتهم، وتقتصر الدارسات التاريخية على تقييم سياساتهم ومواقفهم بصورة علمية، دون بذاءة ودون تعدٍّ شخصي؛ لأن كرامة الأمم من كرامة حكامها، الحاكم رمز سواء اتفقت معه أو اختلفت، وقد التزمت شخصيا بعدم المساس بمن أختلف معهم، فلم يرد في أي نص أنشره ذكر الدكتور محمد مرسي رئيس مصر الأسبق إلا مسبوقا بلقبه الدكتور، أو الرئيس محمد مرسي، لأنه كان رئيسا لمصر، وأرفض أن يمس أحد بكرامته، أما نظام حكمه فمن حق الجميع أن يمارس معه النقد بكل قوة، وبألفاظ لا تنال كرامة الإنسان.
لا يستطيع أحد أن يتفوه بكلمة فيها سباب أو بذاءة في حق جورج واشنطن، أو ونستون تشرشل، أو شارل ديجول.. هؤلاء جميعاً رموز لأوطانهم وشعوبهم، ولا بد أن تحافظ الشعوب على رموزها، لأنه دون رموز تفقد الشعوب القدوة والمثل الأعلى، ويفقد الشباب والأجيال الصاعدة النموذج الذي يسيرون على دربه، ويفقدون كذلك الحس الوطني، لأن الوطن في حقيقته هو مجموعة من الرموز.
ما قام به سفيه قطر، الذي غرد على تويتر بكلام شخصي عن المغفور له الشيخ زايد، يمثل ضربة في قلب منظومة القيم العربية، وينذر بانهيار قيمي كامل، لأنه لم تعد هناك خطوط حمر، وسيفتح الباب على مصراعيه لانفجار غير أخلاقي لن يسلم منه أحد، وهذا ليس في مصلحة أحد؛ لأن هؤلاء المغرورين في قصر الوجبة لا يدركون الأثر التربوي لكل ما يقوم به أتباعهم ومن يمولونهم ويشجعونهم على التطاول والبذاءة، إن ما يحدث منذ تغريدة ذلك السفيه الذي لا يستحق الإجابة بداية خطيرة لمرحلة جديدة، ستحول البيئة التي حافظت على تقاليد العرب إلى حال تحارب لفظي ستسقط فيها كل المحرمات، وستكون النهاية كارثية.
ولا أظن أن ساكني قصر الوجبة يعنيهم قيم العرب ولا مثل العرب، ولا يعنيهم حرمة الأموات ولا قدسية الرموز، فمن الواضح أن هدفهم هو تدمير كل شيء من البنيان إلى الإنسان، ومن النظم إلى القيم، ومن المجتمعات إلى المقدسات والمحرمات، يريدون خراباً عربياً شاملاً، لعلهم يبنون على أطلاله مملكة أحلامهم المريضة.
إن لم يتحرك العرب جميعاً لوقف هذا التدهور غير المسبوق سنفقد آخر ما نملك، سنفقد قيمنا وأخلاقنا، ولن نستطيع أن ننظر في وجوه أبنائنا، بل سوف نشجعهم على أن يفقدوا احترامهم لنا، لا بد من الضرب على يد السفيه ووقفه قبل أن يهدم البناء فوق رأسه ورؤوسنا، لا بد من موقف حازم من حكام الدوحة، فلم يعد الكلام يجدي مع من لا يسمع، أو يسمع ولكنه لا يكترث، لأنه فقد منذ 1996 ما نطالبه أن يحافظ عليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة