"الانكشاريون الجدد".. ومآلات حكم أردوغان
الرئيس التركي يطالب صراحة بإعادة تعديل خرائط الإقليم، ويسعى إلى استعادة أراضي إمبراطوريته المتهاوية
تتعدد تحركات تركيا الخارجية وتتوالى تمركزاتها العسكرية على الساحات العربية، وهي في ذلك تبدو كمن لا يبتكر استراتيجيات جديدة.
وإنما تعيد استنساخ ما كان متبعًا إبان الدولة العثمانية، التى لا يزال يكشف السلطان التركي رجب طيب أردوغان، عبر تصريحاته وسياساته، أنه أسير لها ويحلم بعودتها، بل يتصرف كأنها لم تتهاوَ ولم تنحصر سيطرة وريثتها على رقعة جغرافية لم تعد تتجاوز مساحتها 770.760 كم مربع.
ويطالب الرئيس التركي صراحة بإعادة تعديل خرائط الإقليم، ويسعى إلى استعادة أراضي إمبراطوريته المتهاوية، وحينما يقدم على ذلك فإنه يُظهر نفسه كأنه سلطان يسير على خطى أسلافه السلاطين.
يتجلى ذلك في نمط حراسته وقصره الجديد (Cumhurbaşkanlığı Sarayı)، وطريقة استقباله لضيوفه العرب، وفي مواجهاته المتصاعدة الحدة مع القوى الأوروبية، مدعيا أن سياساته إنما تأتي دفاعا عن أرض ارتبطت بإرث أجداده، وعن حقوق تتعلق بمواطنين هم من حيث الأصل أتراك.
حديث أردوغان وسياساته لا تقتصر على محض نمط التصريحات أو السلوكيات، وإنما تتعلق كذلك بالتكتيكات والاستراتيجيات التي باتت تركز على مجموعة من الإجراءات تستند بالأساس إلى التحركات على الأرض، وتؤسس لقوة عسكرية قادرة على تحقيق الأهداف التركية.
فقد بدأت تركيا تأسيس مجموعات عسكرية من مواطني الدول، التي تتدخل فيها عسكريا، لتشكل ما يمكن أن يطلق عليه "الانشكاريون الجديد" أو "الانكشارية التركية".
ترتبط هذه المجموعات بالأجندة التركية من حيث التمويل والتسليح والتدريب، وهي منفصلة من حيث القيادة، ومن حيث "المسميات العثمانية" التي تحملها، ولكنها متوافقة من حيث الولاء للرئيس التركي، والدفاع عن مصالحه وأجندته التي تقوم على أنقاض دولهم ومصالحها الوطنية.
بدأت تحركات تركيا العسكرية على الساحة الصومالية، وانتقلت منها للساحة العراقية، وسمح الميدان السوري، في ظل تناقضاته، لتركيا بأن تتمدد عبر انكشارييها الجدد في الشمال السوري من خلال ثلاث عمليات عسكرية، اعتمدت فيها على قواتها العسكرية كقوة إسناد وتوجيه للقوة الرئيسية من الانكشارية.
وتتكون من مقاتلين يرتبطون بمليشيات مسلحة راديكالية رفعت شعارات دينية، ولكن في جوهر عملياتها أدت أدوارا وظيفية لخدمة الأجندة التوسعية التركية التي تمولها وتدعمها على المستويات المادية، والإعلامية، والعسكرية.
تطورت الاستراتيجية التركية بعد ذلك لتقوم على منح الكوادر العسكرية الجنسية، بعد أن تم إكسابهم اللغة والعادات والتقاليد التركية في معسكرات التدريب، ليتم استخدامهم في ساحات القتال الأخرى، لتتحول فعليا الكثير من المليشيات المسلحة، في ميادين الصراع العربية، إلى "انكشارية عثمانية".
وتعني في معناها الاصطلاحي "جنود الدولة الجدد" الذين يمثلون قوة مشاة يشكلون ما كان يطلق عليه "الحرس الخاص" للسلطان العثماني.
تأسست قوات الانكشارية في عهد السلطان مراد الأول (1362 إلى 1389). وللانشكارية الجديدة -كما القديمة- تنظيمهم الخاص وشارتهم ورتبهم وامتيازاتهم.
هذه الانكشارية، في الوقت الراهن أيضا، باتت تنفصل عن ذويها وأصولها ليعاد تربيتها وتدريبها ليكون ولاؤها للسلطان العثماني، ولأن تغدو الحرب حرفتها الرئيسية، بغض النظر عن ميادين هذه الحرب وأدواتها وأهدافها.
فقد باتت تُقيم في معسكرات تدريب داخل تركيا، وفي ثكنات عسكرية بمناطق سيطرة القوات التركية داخل الأراضي السورية، ويقودها "أغا الانكشارية"، الذي يرتبط بأجهزة الأمن والاستخبارات، ومن خلاله يتم توجيه المليشيات التي تتحرك عبر مجموعات وفرق قتالية في ميادين القتال المختلفة التي تتورط فيها أنقرة.
كانت هذه الانكشارية قديما تنضوي في ظل لواء مجموعات مسلحة تشكل قوات النخبة في الجيش العثماني، وعمدت إلى حفظ الأمن في القرى وداخل القبائل، وتحولت بمرور الوقت إلى قوة سلب ونهب وبطش في مواجهة من يرفض دفع الجزيات والضرائب من السكان.
أفضى ذلك، على سبيل المثال في الحالة الليبية، إلى ترك الكثير من المواطنين الليبيين لقراهم ومدنهم، والهروب إلى المناطق البعيدة لكي لا يطولهم عقاب "حراس السلطان"، الذي شمل تجريد المواطنين من الثروة، والأرض، والسكن.
يعود السلطان العثماني الجديد إلى ليبيا مرة أخرى، مدعيا أنها مثلت مسرحا لعمليات الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، دون أن يأخذ في حسبانه أن هذا الزعيم خلع عباءة الدولة العثمانية، وحارب آخر سلاطينها، وقاوم بقاء أي مظهر أو جوهر سياسي أو ثقافي يربطه بالتاريخ والثقافة العثمانية.
يعتبر أردوغان أن ليبيا ميراث أجداده، ويغض الطرف عن أنهم -في السابق- قايضوها مع المحتل الإيطالي بمقتضى "اتفاقية أوشي" المبرمة في ضواحي مدينة لوزان السويسرية.
أبرم حفيدا العثمانيين: رجب طيب أردوغان، وفايز سراج باشا أغا، اتفاقية تُعيد العثمانيين مرة أخرى، وترسم حدود ليبيا البحرية، وهي اتفاقية تُدخل الدولة الليبية في صراعات مع جوارها الجغرافي.
وبمقتضاها منحت السلطات التركية صلاحيات عسكرية غير مسبوقة لم تحظ بها حتى في اتفاقيتها، التي بمقتضاها باتت قواتها العسكرية مرابطة داخل وقبالة سواحل الصومال.
فقد شرعنت الاتفاقية إرسال الانكشارية التركية إلى الأراضي الليبية، بعدما رفعت رواتبها وحوافزها المادية للقتال في الميدان البعيد عن الحدود التركية، الذي عملت بالقرب منه داخل الأراضي السورية، طيلة السنوات الماضية.
أسست تركيا لذلك، عبر معسكرات تدريب داخل أراضيها، وفي المناطق الخاضعة لسيطرة قواتها في أراضي الدولة السورية، ثم قامت بنقلها عبر العديد من الرحلات الجوية، التي قامت بها شركة طيران "الأجنحة" المملوكة للإرهابي المقيم في تركيا عبدالحكيم بلحاج، ليرتفع عدد المقاتلين الذين وصلوا إلى ليبيا إلى نحو 2400 مقاتل، مع تخطيط معلن بأن يصل العدد، خلال المرحلة المقبلة، إلى نحو 6000 آلاف مقاتل.
تستند تركيا في هذه الخطط إلى أن عدد المقاتلين الذين يتم تدريبهم داخل المعسكرات التركية استعدادا للرحيل إلى ليبيا نحو 1700 مقاتل.
هذا في وقت تستمر فيه عمليات التجنيد والتعبئة لعناصر من فصائل "لواء المعتصم"، و"السلطان مراد" (صاحب فكرة تأسيس الانكشارية العثمانية)، و"سليمان شاه"، ولواء "السمرقند"، وذلك بعد أن أقدمت تركيا على رفع الحوافز المادية للانكشارية العاملة في سوريا لكي تحفزها للذهاب إلى ليبيا.
مع تخطيط بتخفيض هذه المخصصات لاحقا، اعتمادا على الخبرة التاريخية التي تفيد بأن هذه المجموعات الراديكالية ستجد بعد ذلك ما يكفيها بسبب عمليات السلب والنهب التي ستُدفع للقيام بها، كما قامت من قبل على بيع الآثار، والمصانع، والثروات السورية إلى العصابات التركية، عبر الحدود المشتركة مع سوريا.
تتنوع أهداف تركيا من ذلك، وتقوم على استراتيجية أن التوسع الميداني يعني القدرة على استمرار السيطرة على هذه الانكشارية.
فبدون هذا التوسع ستنقلب تشكيلات الانكشارية إلى قوة تهديد، لا قوة إسناد، لذلك لا بد من البحث الدائم عن ميادين للصراع لكي تضمن ولاءها وتضمن "تصريف" طاقاتها القتالية، ونفوسها المعبئة بالرغبة في استمرار الحروب واندلاع أعمال القتال.
توظيف الانكشارية على الساحة الليبية يستهدف ضمان بقاء الانقسام المناطقي بين الشرق والغرب، ليغدو الغرب الليبي ولاية عثمانية يدعي الخليفة أنها ميراث أجداده، وأن بها أكثر من مليون مواطن من أصل تركي.
وذلك في خطوة ستستجلب العمل تدريجيا على تغيير هويتها ثقافيا، وسياسيا، واقتصاديا، كما حدث في الشمال السوري، وإعادة هندسة ديموغرافيتها، واللغة السائدة فيها، وطبيعة العملة المحلية التي تتم بها المعاملات التجارية، لتغدو رافدا ماليا يتم ضخه في شريان الاقتصاد التركي، كما جرى سابقا مع الاقتصاد العثماني.
الاستراتيجية التركية شاملة، وتأتي عبر تكتيكات متنوعة، بدأت مع توجه أردوغان لإنشاء "انكشارية محلية" أخذت بداياتها عنوان إنشاء شركة خدمات عسكرية تحت مسمى سادات "SADAT".
أدار هذه الشركة عدنان تانري فردي، المستشار العسكري المقرب من الرئيس التركي، وهو جنرال متقاعد، أصبح، بحكم موقعه، أحد أعضاء هيئة السياسات الأمنية والخارجية الملحقة بالرئاسة التركية، وذلك بعد أن تم تعيينه كبير مستشاري الرئيس في أغسطس/آب 2016، وذلك بعد المهام التي أنيطت به في مجابهة محاولة الانقلاب في يوليو/تموز 2016.
وقد أعلن تانري فردي، في الفترة الأخيرة، عن توجه تركيا لإنشاء شركة خدمات عسكرية "إسلامية"، ميدان تحركها الرئيسي ساحات الدول العربية.
تقوم على تدريب وتأهيل الانكشارية التركية في ميادين القتال البعيدة عن حدودها الجغرافية، لتشكل "الحرس الثوري" التركي في الخارج، بعد نجاح تجربته محليا، لتشمل الآلاف، بعد أن كانت قد بدأت بمحض 23 ضابطا متقاعدا في 28 فبراير 2010، وذلك قبيل اندلاع الثورات العربية.
يستهدف جيش أردوغان السري أو انكشاريته الجديدة، السيطرة على الولايات العثمانية في الخارج، بعدما سيطرت على جميع مقاليد الحكم في الداخل التركي، وذلك عبر فرعين؛ أحدهما رسمي يتمثل في الجناح العسكري، الذي بات يسيطر على مقاليد صنع القرار داخل الجيش التركي.
والآخر شبه رسمي ويتمثل في الانكشارية، التي تدين له بالولاء بحسبانه من يمولها ويطعمها، مقابل تسهيل عملية السيطرة على الأرض والموارد في الخارج.
لذلك، فكلما وجدت تركيا ميادين التوسع والتمدد، ضمنت استمرار هذا الولاء الانكشاري.
بيد أن التاريخ العثماني ذاته يشير إلى أن هذه الانكشارية كثيراً ما تحولت إلى قوة تهديد للخليفة العثماني ذاته.
فقد قامت بعد أن تنامت قوتها إلى مكمن تهديد للدولة العثمانية مع ضعف هذه الدولة، بل وصل الأمر إلى أن استطاعت هذه الانكشارية أن تعزل السلاطين، مثل السلطان عثمان الثاني، وإبراهيم الأول، بل امتدت قدرتهم إلى قتل الصدر الأعظم مصطفى باشا البيقدار.
يريد أردوغان استعادة أمجاد التاريخ العثماني، وحينما يقوم بذلك فإنه يستمد قوته من انكشارية يتسع نفوذها في الداخل والخارج، على نحو قد يجعل من تنامي قوتها ذاته أكبر تهديد لمشروعه، وليس محض أكبر محرك لبقائه.
** محمد عبدالقادر خليل: رئيس تحرير مجلة شؤون تركية – مركز الأهرام للدراسات.
aXA6IDE4LjIyNi4yMDAuOTMg جزيرة ام اند امز