الصويرة.. مدينة الرياح وأرض الحب والتعايش في المغرب
كأن رياحها الشديدة حملت ثقافات وديانات عدة، فتجد بُنيانها يجمع بين النمط الفينيقي والبرتغالي والعمران الإسلامي الذي تتخلله مبان يهودية.
إنها مدينة الصويرة المغربية التي تتعدد أسماؤها وألقابها، فهناك من يُسميها "موكادور" والتي تعني في اللغة الفينيقية "الحصن الصغير"، ومن يُلقبها بـ"تاسورت"، وهي عبارة أمازيغية توحي إلى الأسوار المحيطة بها.
وتوصف الصويرة بكونها "مدينة الرياح"، وهي تسمية تحلو لعشاق ركوب الأمواج الذين يحجون إلى المدينة من شتى بقاع العالم، أما البعض فيُسميها بـ"مدينة النوارس" لكثرة هذا النوع من الطيور في شواطئها، وحتى بين أزقتها.
ومهما تعددت التسميات والتوصيفات لهذه المدينة العتيقة بالمملكة المغربية، إلا أنها تظل مُلتقى للثقافات والديانات المُختلفة، ومحضنا لجمع المغاربة المُسلمين وإخوتهم اليهود، في أزقة جاورت المعابد اليهودية فيها مساجد المسلمين، تماما كما اشترك أبناء الديانتين الوطن الواحد.
رصيد تاريخي
للمدينة تاريخ عريق، تختلف الروايات حول بدايته، إلا أنها تتفق على ثراء الحضارات المتعاقبة على مدينة الصويرة، الشيء الذي انعكس بشكل واضح على عمرانها.
تقول بعض كُتب التاريخ إن تأسيس المدينة كان في فترة ما قبل ميلاد المسيح، حيث جعل منها الفنيقيون قنطرة لرسو السفن المسافرة في المحيط الهادي.
ووجد بعض الباحثين الأركيولوجيين، مُستحاثات وأحفوريات بالإضافة إلى أوانٍ فخارية تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد.
وتقول كُتب أخرى إن السبب وراء تأسيس المدينة كان بعد إنشاء معمل لصناعة الصباغات المستخرجة من المحار، وهو أحد انواع الرخويات، ليتم فيما بعد تصديرها إلى الرومان.
ومع تعاقب القرون، استقر بها البرتغاليون، وبعدهم سلاطين السعديين ممن حكموا المغرب آنذاك، قبل أن يوكل السلطان العلوي سيدي محمد الثالث بن عبد الله مهمة إعادة بنائها في نسختها الحالية عام 1760م.
ويتصل تاريخ المدينة بحاضرها، ففي مطلع القرن الواحد والعشرين، حل العاهل المغربي الملك محمد السادس بهذه المدينة العتيقة، ليدشن مجموعة من المشاريع الترميمية والتأهيلية للمدينة، وأيضاً أخرى تتيح فرصاً للتكوين والشغل لأهلها.
كناوة
ومما تشتهر به المدينة، هو موسيقى كناوة، وهي لون موسيقي ينتشر بكثرة في المدينة، كما أنها تحتضن سنوياً أضخم مهرجان موسيقي لهذا النوع.
وبخلاف أيامها الهادئة، تعيش المدينة كُل عام صخباً روحياً لا مثيل له، إذ يحج إلى ساحاتها عشرات الآلاف من المولعين بهذه الموسيقى التي تنحدر من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
وتقول الروايات إن السفن التي كانت تحمل الرقيق من العمق الأفريقي نحو أوروبا، وفي ميناء الصويرة يتسللون إلى الأراضي المغربية، قبل أن يستقروا بها، حاملين معهم هذا التراث الموسيقي العريق.
وتحتضن المدينة ضريح "سيدي بلال" في غرب الصويرة، الذي يعتبر المرجع الأعلى والأب الروحي لكناوة. وداخل ضريح هذا الولي توجد الزاوية التي تحتضن في العشرين من شهر شعبان الموسم السنوي للطائفة الكناوية على إيقاع تلك الموسيقى.
أرض الذاكرة
وإلى جانب غناها التاريخي والثقافي، تعتبر المدينة محضنا للثقافة اليهودية، والتي يُؤرخ لها معرض بيت الذاكرة، الذي افتتحه العاهل المغربي الملك محمد السادس، قبل سنوات.
وتضم المدينة إلى جانب أماكن العبادة اليهودية، مقبرة كبيرة تضم عدداً من رجال الدين اليهود، الذين تُعتبر فتاواهم ونصائحهم مرجعاً ليهود العالم.
ومن الحاخامات اليهود المغاربة المدفونين بمدينة الصويرة، يوجد الحاخام حاييم بينتو، الذي توفي عام 1845، ثم دفن بالمقبرة القديمة بالمدينة، قبل أن يُبنى عام 1998 ضريح على قبره، ويُصبح أحد أشهر المزارات اليهودية العالمية.
ويحج إلى قبره آلاف اليهود من شتى بقاع العالم، في السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول من كل عام، وهو التاريخ الذي يتوافق ووفاة هذا الرجل الذي كان الحاخام الأكبر لمدينة الصويرة.
وإلى جانب بينتو، يرقد بمقبرة الصويرة عدد من علماء اليهود، كأبراهام بن شوشان، الذي توفي عام 1944، وديفيد الكايم، الذي يُعتبر أحد أشهر الشعراء اليهود، والذي توفي عام 1941 بالمغرب، ودفن بمدينة الصويرة.
ويرقد جُثمان الكاتب اليهودي يوسف كنافو، الذي توفي عام 1901 بمدينة الصويرة، والذي كان كاتباً مشهوراً، ألف طوال مسيرتهِ المهنيّة حوالي 20 كتابًا في شتّى المجالات.
"السلام عليكم"
وأنت تلج بيت الذاكرة بمدينة الصويرة، وهو متحف يُؤرخ للثقافة اليهودية بالمملكة، تستقبلك عبارة "السلام عليكم" مكتوبة على مدخله بأكثر من لغة، أبرزها العبرية والعربية.
هذا البيت الذي كان في الأصل منزلاً عتيقاً عاشت به أسرة يهودية بمدينة الصويرة، عرفت بثرائها آنذاك، ما جعلها تقيم داخله كنيسا صغيرا يغطي جوانبه خشب منحوت مستورد من بريطانيا.
وتم إنشاء هذا المعرض بمبادرة من أودري آزولاي، اليهودي المغربي، ومستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، والتي قال عنها "إن هذه الدار تشهد على فترة عاش فيها الإسلام واليهودية في ظل تقارب وانسجام استثنائيين".
ويعرض "بيت الذاكرة" وثائق ومتعلقات تعود لعائلات يهودية محلية بالإضافة إلى كنيس ومركز للأبحاث. كما يسمح باكتشاف مسارات متميزة لشخصيات يهودية متحدرة من الصويرة.
كما يعرض البيت صورا قديمة وأفلاما من الأرشيف وتسجيلات موسيقية وملابس تقليدية ومتعلقات ذات طبيعة دينية. بينما تم إعداد الطابق العلوي ليضم مركز أبحاث حول تاريخ العلاقات بين المسلمين واليهود.
aXA6IDE4LjIyNy43Mi4yNCA= جزيرة ام اند امز