«حرب الأثير» بالشرق الكونغولي.. أشد فتكا من الرصاص

الكلمة أشد فتكا من الرصاصة، وهذا ما يبدو أن متمردي «إم 23» باتوا يعتمدون عليه من خلال «حرب الأثير» لاستقطاب مؤيدين بالشرق الكونغولي.
ففي منطقة شمال كيفو، يواصل متمردو حركة «23 مارس» المعروفة اختصارا بـ«إم 23» ابتكار أساليب غير تقليدية للسيطرة على السكان.
يحدث ذلك من خلال فرض ضريبة لتمويل إنشاء محطة إذاعية، في خطة يرى خبراء أنها لا تعد مجرد إجراء مالي، بل تختزل رمزية تهدف إلى إرساء "شرعية إعلامية" بديلة عن الدولة.
ويحذرون من أنه في مناطق النزاع، يتحول المذياع إلى سلاح أشد فاعلية من البندقية؛ إذ يشرعن وجود المتمردين ويعيد تشكيل الوعي الجماعي للسكان.
ضريبة إلزامية
في بلدة كيبسي الواقعة ضمن إقليم لوبيرو شمال كيفو شرقي الكونغو الديمقراطية، يفرض متمردو «إم 23»، منذ سيطرتهم على المنطقة في فبراير/شباط الماضي، ضريبة جديدة على السكان.
وبحسب مصادر محلية متطابقة، يجبر كل منزل على دفع 3500 فرنك كونغولي (ما يعادل نحو 1,3 دولار أمريكي) للمساهمة في تمويل إنشاء محطة إذاعية يجري تثبيتها حاليًا على مرتفعات البلدة في موقع استراتيجي.
ويقول مراقبون إن الهدف من هذه الإذاعة هو ترسيخ نفوذ الحركة في لوبيرو، عبر بث رسائل تخدم أيديولوجيتها والسيطرة على تدفق المعلومات في كامل المنطقة.
سلاح مزدوج
يقول الباحث الدكتور دونات-سووفت موكونا مويا، الباحث الاستراتيجي الكونغولي في علم الأمن والدفاع، إن «فرض ضريبة إذاعية ليس مجرد وسيلة مالية، بل بدا إعلانًا للسيطرة الإعلامية والشرعية في المناطق التي تسيطر عليها الحركة».
ويوضح الخبير، في حديث لـ«العين الإخبارية»، أن «المحطة تقوم بدور مزدوج: جمع موارد وأدوات مالية فعلاً، وفي الوقت نفسه تشكل أداة رمزية لإعادة تشكيل الوعي الجماعي. وهي جزء من استراتيجية إم 23 لتعويض غياب الدولة عبر بناء سلطة موازية تدعي تمثيل السكان».
من جانبه، يعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة كيسانغاني ومدير مركز الأبحاث السياسية والاجتماعية بأفريقيا، ألفونس مايندو مونغا نغونغا، أن ما يمارسه المتمردون يشكل ظاهرة تمثيلية موازية وليس تنظيمًا إعلاميًا عابرًا.
ويقول الباحث السياسي الكونغولي، لـ«العين الإخبارية»، إن «هذه الضريبة تستهدف أمرين: تحصيل التمويل وتحويل الإذاعة إلى منصة للبروباغاندا؛ إذ تُهيئ الخطاب الإعلامي وفق مصالح المتمردين وتحويل محطة الراديو إلى ما يشبه محكمة رمزية للإكراه الثقافي».
وأضاف أن «التطبيق العملي لهذه السياسة يفضي إلى دخول المجتمع في ديناميكيات طائفية أو مناطقية»، حيث يصبح السكان رهائن لوعي مشكّل مؤسساتيًا من خارج الدولة.
وحذر من أن الخطوة «لا تشكل فقط عبئا ماليًا بل صراعا رمزيا على الفكر والوعي، وتأتي في إطار استراتيجية أوسع لبناء إدارة موازية وشبكة سلطة محلية بديلة عن الدولة في الشرق الكونغولي».
ويعتبر أنها «حربا عبر الميكروفون، تستهدف الإنهاك العقلي والثقافي للسكان أكثر من مجرد استنزاف جيوبهم».
«إحياء» إذاعة مدمَّرة
المحطة الجديدة ليست سوى إعادة تأهيل لإذاعة محلية كانت قد دمرت خلال المواجهات بين الجيش الكونغولي ومليشيات تسمى «وازاليندو» من جهة، ومتمردي «إم 23» من جهة أخرى. واليوم، يعاد إحياؤها لكن بأموال السكان أنفسهم.
وأكد أحد سكان كيبسي لموقع «أكتوياليتي .سي دي» الكونغولي الناطق بالفرنسية، أن فريقًا شكله المتمردون بالتعاون مع قادة محليين يقوم بجمع الضرائب بشكل منتظم، مضيفًا: «خلال اجتماع عام، أعلن المتمردون أن على كل أسرة دفع 3,500 فرنك (كونغولي)».
وأشار إلى أن «بعض الأهالي بدؤوا بالفعل بالدفع خوفًا من الانتقام، موضحاً أن المكلّف بتسجيل المدفوعات هو مسؤول محلي يعرف باسم كابيتا ويقولون إنه بعد جمع الأموال سيقومون بتركيب جهاز إرسال جديد».
وهذه الضريبة الجديدة ليست سوى حلقة في سلسلة من الجبايات التي فرضها متمردو «إم 23» منذ سيطرتهم على كيبسي.
ويُلزم التجار بدفع 5 آلاف فرنك عن كل يوم سوق (الثلاثاء والجمعة)، فيما يتحمل أصحاب الأكشاك والمتاجر ضريبة شهرية تبلغ 15 ألف فرنك من دون إيصالات رسمية.
كما تفرض ضريبة أخرى تُسمى "ضريبة التصريح" على أي وافد جديد أو أي شخص يرغب في مزاولة نشاط تجاري بالمنطقة.