العسكرة الأوروبية المُفرطة.. مخاطر النزعة الحربية الجديدة

على مدار نحو ربع قرن، طالب القادة الأمريكيون، الأوروبيين بزيادة إنفاقهم الدفاعي، إلا أن النبرة تصاعدت بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
لكنّ هذا النهج من الإنفاق ببذخ للوصول إلى حصة عشوائية من الناتج المحلي الإجمالي أو عدد عشوائي من مليارات اليوروهات، لشراء أنظمة أسلحة تفضلها جماعات الضغط، حتى لو كان مشكوكًا في أهميتها، يُعدّ بديلاً ضعيفًا لاستراتيجية شاملة للأمن الأوروبي.
وحتى تستحق أن يُطلق عليها «استراتيجية أمنية أوروبية» فإن الأمر يتطلب جهودًا سياسية ودبلوماسية لإنهاء الحروب على المدى القصير، ثم تأسيس آلية تشاور في الأزمات، تكون بداية لتشكيل هيكل أمني أوروبي جديد يتألف من أنظمة متبادلة للحد من التسلح، وبناء الثقة، وفي النهاية نزع السلاح، وفقا لما ذكره موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت».
وتُظهر نظرة فاحصة إلى أوروبا كيف اجتاحت نزعة حربية جديدة النخب السياسية في القارة العجوز قبل أن تبلغ ذروتها خلال الأسابيع الأخيرة خاصة في ألمانيا، حيث يتبادل القادة السياسيون ومجموعة جديدة من «الخبراء العسكريين» التحريض.
وبحسب الموقع الأمريكي، فإن ما وصفه بـ«الخطأ الفادح الذي ارتكبه هؤلاء هو توقعهم المتكرر بانتصار أوكرانيا المؤكد وانهيار روسيا الوشيك»، مشيرًا إلى أنه «رغم خطأ توقعاتهم إلا أن هيمنتهم على البرامج التليفزيونية مستمرة مع زعمهم بأن الصيف القادم سيكون آخر صيف ينعم فيه الألمان بالسلام، لأن روسيا ستغزو أراضي حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحت غطاء مناورات حربية في بيلاروسيا».
ويتداول المسؤولون الألمان "Kriegstüchtigkeit" وهي اسم مركب يعني "المهارة في الحرب" كما تنتشر مقاطع فيديو داخلية للجيش الألماني على يوتيوب يظهر فيها ضباط كبار بزيهم العسكري وهم يرسمون أسهما على خرائط كورسك الروسية.
خدمة عسكرية إلزامية
وبعد تعليق الخدمة العسكرية الإلزامية عام 2011، تتعالى الآن دعواتٌ واسعة النطاق من مختلف الأطياف السياسية لإعادة تطبيقها وتوسيع نطاقها لتشمل النساء، وسط قلقٍ من أن الشباب الألماني ضعيفٌ جدًا على الحرب.
ومع ذلك، فإن هذه العسكرة الأوروبية الجديدة «تفتقر، إلى التفكير الاستراتيجي والتحليل القائم على الحقائق، فبينما لم تتوقع إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن أبدا فوز أوكرانيا في الحرب، لا يزال قادة أوروبا يؤمنون بانتصارها حتى الآن».
وفي مؤتمر ميونيخ للأمن الشهر الماضي، تحدثت رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن عن فوز أوكرانيا في الحرب، وهي جالسة في نفس الجلسة مع كيث كيلوج، المبعوث الخاص لترامب إلى روسيا وأوكرانيا. ويرى مركز بروغل البحثي في بروكسل أن روسيا قد تهاجم أوروبا في غضون 3 سنوات فقط .
واقترحت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ألا تكون أوكرانيا عضوًا في الناتو مع استمرار شمولها بالمادة الخامسة، بينما يقترح الرئيس الفنلندي منح كييف العضوية في اللحظة التي تهاجم فيها روسيا أوكرانيا مرة أخرى، بعد انتهاء الحرب الحالية.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر فأطلقا مقترحات غير قابلة للتنفيذ، تُطرح، على الولايات المتحدة وليس على أوكرانيا أو روسيا.
وفي الواقع، فإن السياسات العسكرية الجديدة في أوروبا تقوض بالفعل مؤسساتها وقوانينها الديمقراطية، ففي ألمانيا التي تعاني من ركود اقتصادي، يُعجّل البرلمان بتعديلات دستورية تسمح بديون جديدة للإنفاق العام، وهي خطوة مشكوك في شرعيتها الديمقراطية.
إنفاق دفاعي
وخلال اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي، وافقت حكومات التكتل على أداة قرض بقيمة 150 مليار يورو لتسهيل الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء، إلا أنه للوهلة الأولى يبدو هذا الأمر غير قانوني إذ تحظر المعاهدة التأسيسية للاتحاد صراحةً الإنفاق على أي شيء دفاعي وعسكري.
ومن المفترض أن تجمع الدول الأعضاء 650 مليار يورو إضافية لشراء الأسلحة، والتي ستُعفى من القيود الصارمة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الاقتراض وهو ما يدفع مواطني الاتحاد الأوروبي، الذين شهدوا تجويع دولهم ونهب أصولهم العامة باسم الانضباط المالي للشعور بالخيانة.
ويرى إلدار محمدوف، المسؤول السابق في الاتحاد الأوروبي والزميل غير المقيم في معهد كوينسي، أن «جماعات ضغط الأسلحة تتكاثر في بروكسل».
وارتبطت زيادة الإنفاق الدفاعي بدعوات لخفض الإنفاق الاجتماعي بشكل أكبر، في حين أشارت الخبيرة الاقتصادية إيزابيلا ويبر، إلى أن سياسات التقشف العقائدية كانت السبب الرئيسي لصعود أحزاب أقصى اليمين.
خوف أوروبي
وقد يكون الخوف هو ما يُحفّز «جنون الحرب في أوروبا في ظل الإيحاء بأن روسيا ستهزم أوكرانيا بأكملها وتحتلها، ثم تزحف عبر بولندا، وبعد ذلك بوقت قصير عبر بوابة براندنبورغ، وهو ما يُخالف الواقع العسكري»، يقول الموقع الأمريكي.
وأشار إلى أن النخب الأوروبية تخشى فقدان السلطة والمكانة التي تمتعت بها بالوكالة في ظلّ المظلة النووية الأمريكية المُريحة، الأمر الذي يثير رعبهم من أن يضطروا إلى التعامل مع نظام دولي متعدد الأقطاب.
ويبدو أن أوروبا عازمة على إنفاق مبالغ طائلة دون مبرر أو منطق، ودون مراعاة التطورات التكنولوجية والتكتيكية الجديدة والدراماتيكية في ساحة المعركة الأوكرانية.
وإذا كانت عسكرة الولايات المتحدة سيئة حيث أدت إلى حروب مطولة لا تحقق مزيدًا من الأمن، واستنزاف رفاهية المجتمع الأمريكي، واستيلاء جماعات ضغط الأسلحة على سياساته، وتآكل ديمقراطيته، فلماذا تكون هذه العسكرة مفيدة لأوروبا؟