الفكر السياسي الأوروبي يتطور ببطء لكنه يتطور باستمرار.. وعادة ما يمر بسلسلة تحولات رئيسية
هل شاخت هذه القارة الأوروبية التي أطلق عليها سياسيون أمريكيون ذات يوم لقب «القارة العجوز»، أم أنها تجدد نفسها من خلال العودة إلى هوياتها القومية والعصبوية والأيديولوجيات الشعبوية المنغلقة، والسعي لتفريغ الديمقراطية من مضمونها السياسي والإنساني المنفتح على الكون، والتراجع عن قيم التشاركية والتمثيلية؟
أوروبا ومستقبلها تهمنا كعرب ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي، بل لأسباب أخرى، من بينها مصالح استراتيجية وتبادل إنساني، حيث يعيش فيها ملايين من العرب والمسلمين، وتفاعلات تاريخية
هل ما يجري في مجتمعات دول فيها من صعود فاعل لتيارات يمينية، واتساع حالة الشك الجماهيري بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، هو أيضاً مؤشر من مؤشرات الشيخوخة الأوروبية، وبحثها عن هوايتها الغابرة، كتعبير عن قلقها من المهاجرين وخشيتها من مستقبل غامض؟
أوروبا.. مهد الثورة الصناعية والعلمية الحديثة، والتي رسمت ملامح الجغرافيا السياسية للعالم في عصور الاستعمار، وفي الوقت نفسه أرست قواعد النهضة والأنوار، ووضعت حداً لسلطة الكنيسة وهيمنتها التي دامت قروناً طويلة، أوروبا اليوم تقف على أبواب تحولات عظيمة.
وكعادتها، فإن الفكر السياسي الأوروبي يتطور ببطء لكنه يتطور باستمرار، وعادة ما يمر بسلسلة تحولات رئيسية، وينطبق هذا الأمر أيضاً على علم اللاهوت، والقوانين الكنسية والمدنية.
اليوم، وعلى الرغم من أن أوروبا تعيش في مجتمعات ما بعد المسيحية وما بعد الأنوار إلا أن فكرها العام وفنونها وآدابها ظلت تحمل علامات متأثرة بمعتقدات دينية، وبأولويات الحرية وحقوق الإنسان، وبأعباء التاريخ والحنين لهويات تاريخية غابرة.
لا يعني ذلك أن أوروبا الراهنة بتكيفها مع التحولات بطرق معينة ستصبح شيئاً مختلفاً، أو أنها ستعود ممالك أمم أوروبية، تتبنى قيماً ابتكرتها الإمبراطورية الرومانية المتأخرة، في حروبها وتوسعها، أو أنها ستقود ثورة تكبل العقل بقيود اللاهوت.
التغيير المتوقع، البطيء في صيرورته، هو تطوير الأفكار التي تحظى بانتشار واسع على صعيد حياة الأوروبيين من خلال الجماعات والأحزاب الأوروبية الشعبوية، وتعاملها مع الواقع القائم، الذي يواجه أزمة حادة، ربما طالت مؤسساته الجمعية.
هل ستعالج أوروبا نفسها بعقلانية، وباحتواء الشعبويات الصاعدة، والاستجابة لأكبر الاختبارات في تاريخها المعاصر ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل ستعيد النظر في صوغ رسالة جديدة لها أم أن التطورات القادمة فيها ستزيد من التعقيدات المرتبطة بالتعايش المجتمعي والوئام الوطني داخل كل دولة أوروبية، فضلاً عن قضايا البطالة والهجرة والسياسات المشتركة وغيرها من المسائل الحرجة، التي ستؤثر بالضرورة في استقرار ورخاء العالم؟
أوروبا ومستقبلها، تهمنا كعرب ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي، بل لأسباب أخرى، من بينها مصالح استراتيجية وتبادل إنساني، حيث يعيش فيها ملايين من العرب والمسلمين، وتفاعلات تاريخية.
مطلوب التحسب لهذه التطورات، على المستويين العربي العام والخليجي خاصة، في جوانبها السياسية والثقافية والاقتصادية والدفاعية.
من سيكسب معركة أوروبا المستقبل؟
سمعنا (أردوغان) المغرور وهو يحث الأتراك المقيمين في أوروبا على إنجاب خمسة أطفال، ويقول لهم: «أنتم مستقبل أوروبا».
وقرأنا لباحث أوروبي، هو مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو يتحدث عن مستقبل أوروبا، ويشبه الأمر، وكأنه مسلسل درامي على غرار المسلسل الشهير (لعبة العروش)، حيث تتصارع قبائل وعائلات ممالك في قارة خيالية على عروش هذه القارة، وتبدو في المسلسل القلاع والفرسان والبطولات، واللكنة الإنجليزية، وكأنها تجسد العصور التاريخية الأوروبية، وكذلك أقوامها المتعددة، حيث يصور المسلسل جماعة تعتقد بأن (النظام في القارة لا يزال يعمل) وجماعة ثانية تعتقد أن (القارة في حاجة إلى تطهيرها من الفساد)، وثالثة ترى أن (المشكلة تكمن في النظم الوطنية نفسها)، أما الجماعة الرابعة في القارة الخيالية فهي (متشككة في النظام العام في القارة).
من سيكسب معركة المستقبل؟ أوروبا المنفتحة المتجددة؟ أم أوروبا القوميات الشعبوية المنغلقة؟
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة