فحديث القادة الأوربيين يدور حول تقصير سلاسل الإمداد وكبح خطة الصين "الحزام والطريق"
منذ تفشى وباء كورونا على الصعيد العالمي في شهر فبراير الماضي وما خلفه من تدهور اقتصادي شديد، تعرض الاقتصاد العالمي لاضطرابات شديدة خاصة في سلاسل إمداد صناعة السلع المختلفة، والحديث لا ينقطع عن ضرورة تأمين سلاسل الإمداد وعدم تركزها في مكان واحد مثل الصين، وضرورة عودة الكثير من إنتاج هذه السلاسل للبلدان الغربية.
وإذا كان الرئيس ترامب السباق إلى طرح فكرة عودة الصناعات الأمريكية من الصين وغيرها من البلدان لكي تنتج في الولايات المتحدة مرة أخرى، وذلك تحت شعار "أمريكا أولا"، فالآن يعد الشعار منتشرا بحيث يكون كل بلد معتمد على سلاسل إمداد من الخارج وخاصة في الصين هو أولا.
حيث يلاحظ أن بلدان أوروبا الموحدة أخذت في الحديث عن ضرورة تأمين سلاسل الإمدادات للتوطن في الاتحاد الأوروبي أو بالقرب منه وإنهاء تركز إنتاج هذه السلاسل في الصين.
فحديث القادة الأوربيون يدور حول تقصير سلاسل الإمداد وكبح خطة الصين "الحزام والطريق".
تعد مرونة سلاسل الإمداد أمرا حيويا للصناعة الألمانية بالذات لأن نحو 17% من الإنتاج يعتمد على الإمدادات العالمية، وهي حصة أكبر بكثير من حصص البلدان الأخرى.
ومع معاناة أوروبا بالفعل من النزاعات التجارية الأمريكية الصينية، بدأ الاتحاد الأوروبي جهودا من أجل الإنتاج في مواقع إنتاج قريبة من القارة عشية انتشار فيروس كورونا، الذي تسبب في أسوأ ركود ربما خلال قرن كامل. وبينما كانت الأدوية والتجهيزات الطبية هي محل الأولوية المباشرة، فإن المبادرة بدأ يتسع نطاقها لتشمل قطاعات عدة.
ويعد هذا كما تقول وكالة بلومبرج للأنباء "فتحا غير معتاد للسياسة الصناعية"، وقد جادل بعض المسؤولين في بنك أوروبا المركزي ومحافظ بنك هولندا المركزي بأن الشركات يجب أن تنقل جزءا من سلاسل الإمداد لمواقع أقرب إلى أوروبا حتى لو كان ذلك يتضمن تكلفة أعلى.
وكجزء من حزمة الإنعاش الاقتصادي المقترحة من آثار فيروس كورونا والبالغ قيمتها 750 مليار يورو "843 مليار دولار"، تتحدث المفوضية الأوروبية عن تأمين "الاستقلال الاستراتيجي" في عدد من القطاعات الرئيسية وبناء سلاسل قيمة أقوى داخل الاتحاد الأوروبي.
وتقول المفوضية أن استراتيجية جديدة تختص بصناعة الدواء سوف تتصدى للمخاطر-مثل محدودية الطاقة الإنتاجية الأوروبية-التي تعرضت لها خلال الأزمة.
ولن تكون هذه المهمة سهلة. فالصين تنتج تقريبا نحو 40% من المدخلات الدوائية الفعالة المستخدمة في كافة أنحاء العالم، وذلك وفقا لشركة ستادا المنتج الألماني للأدوية.
ولا يعد هذا الأمر مجرد مقترح مقدم من المفوضية في بروكسل، فالحكومات الأوروبية الوطنية تدفع نحو توطين سلاسل الإمداد محليا، وتنافس من أجل الاستثمار في الطاقة الإنتاجية.
وسوف تقدم ألمانيا خطة تتعرض لاستراتيجية سلاسل الإمداد خلال الشهور القليلة المقبلة وذلك مع استهدافها لخفض تعرض الصناعات الرئيسية لأي اضطرابات محتملة في تدفق التجارة.
وكجزء من هذه العملية، فإن الاقتصاد الألماني الأكبر أوروبيا يسعى لفرض قيود مشددة أكثر حول حقوق الإنسان وحماية البيئة في الدول المنتجة للسلع المستوردة، وهي طريقة للمساعدة على حماية الصناعات المحلية.
وقال وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير عقب مقابلته في شهر يونيو لممثلي الصناعة الألمانية إن أي قواعد يجب أن يتم وضعها بطريقة لا تؤدي إلى خلق أعباء إضافية على الشركات الألمانية.
وتعد مرونة سلاسل الإمداد أمرا حيويا للصناعة الألمانية بالذات لأن نحو 17% من الإنتاج يعتمد على الإمدادات العالمية، وهي حصة أكبر بكثير من حصص البلدان الأخرى.
وأظهرت دراسة حديثة لمعهد أيفو الألماني أن الاعتماد الألماني على الإمدادات الدولية يمكنه أن يعيق الاقتصاد عن العودة لنشاطه المعتاد بعد انتهاء الوباء.
المغرب جهة محتملة لإعادة التوطين
وتقول بعض الجهات إن إعادة التصنيع أقرب إلى الاتحاد الأوروبي لا تعني بالضرورة إعادته لداخل الاتحاد الأوروبي، فيمكن إقامة شركات جديدة خارج التكتل.
وبينما يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إعادة الصناعات لفرنسا، فإن مصنعي السيارات قاموا بخفض الطاقة الإنتاجية في فرنسا وافتتحوا مشروعات جديدة موجهة للتصدير في المغرب.
وكان آخرها افتتاح شركة بيجو العام الماضي أكبر مصنع لها خارج أوروبا والصين في المغرب خلال العام الماضي.
وهذا كان جزءا من جهود السلطات المغربية لجذب الاستثمارات الأجنبية وإعطاء دفعة للصادرات، وقد تمكنت السلطات من اجتذاب ما يقرب من 70 مصنعا لأجزاء السيارات عن طريق منح حوافز تشمل توفير قطع أراضٍ مجانية، وإعفاءات ضريبية واستثمارات ضخمة في البنية الأساسية.
وافتتحت مجموعة بيجو سيتروين الفرنسية مصنعها في المغرب في 20 يونيو من العام الماضي وتبلغ قدرة المصنع الإنتاجية 100 ألف سيارة سنويا، ومن المنتظر ارتفاع الإنتاج إلى 200 ألف سيارة في وقت لاحق، كما تخطط المجموعة لمضاعفة حجم مبيعاتها في أفريقيا والشرق الأوسط بحلول عام 2021.
وينتظر أن يوظف المصنع حوالي 2500 عاملا في مرحلة أولى، وأقيم المصنع في المنطقة الصناعية في مدينة القنيطرة حيث جهزت لاستضافة صناعات متخصصة في أجزاء السيارات، واستقطبت العديد من المصانع العاملة في هذا القطاع.
بموجب الاتفاق الذي وقعته المجموعة مع وزارة الصناعة المغربية فهي ملتزمة بتصنيع ما يصل إلى 60% من مكونات سياراتها محليا.
وقال وزير الصناعة المغربي إن "الاستثمارات المباشرة للمجموعة الفرنسية ومنتجي أجزاء السيارات مكنت من تأمين 19 ألف فرصة عمل مباشرة".
وتأتي صناعة السيارات الآن في طليعة الصادرات المغربية حيث تمثل نحو ربع حجم صادراتها.
وكانت مجموعة رينو الفرنسية لصناعة السيارات قد سبقت بيجو في افتتاح مصنع لإنتاج سياراتها في المغرب في المنطقة الحرة بمدينة طنجة في عام 2012.
وبلدان أوروبا الأقل تقدما أيضا
تحدو بعض البلدان داخل الاتحاد الأوروبي أيضا آمالٌ في اجتذاب قدر من سلاسل الإمداد الأوروبية التي سيتم إعادة توطينها.
فقد قامت البرتغال بفضل الأجور المنخفضة قياسا إلى مستوى الأجور في بقية دول الاتحاد الأوروبي بتوجيه جهود لتقصير سلاسل الإمداد حتى قبل تفشي الفيروس.
وتروج بلدان في شرق أوروبا مثل بولندا ورومانيا أيضا لجذب الاستثمارات، مستفيدين في ذلك كونهم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، والروابط القائمة مع عدد من الشركات الغربية وتكلفة العمالة التي تعد مجرد جزء ضئيل مما يتلقاه العاملون في ألمانيا.
والجميع سواء خارج الاتحاد الأوروبي أو داخله يستندون إلى أن الاضطرابات التي تعرضت لها سلاسل الإمداد بسبب أزمة فيروس كورونا أجبرت الشركات على أن تفكر في إعطاء وزن أكبر لمدى قرب الجهة البائعة.
رغم كل ذلك لا يمكن القول إنه يمكن أن يتم التحول عن الصين بشكل كبير. إذ تظل الصين منتجا بكفاءة عالية وبتكلفة منخفضة للغاية في العديد من الصناعات.
فعلى سبيل المثال تنتج الصين بالفعل نحو 40% من التوريدات لشركة صناعة السيارات الألمانية العملاقة فولكس فاجن.
وفي شهر مايو الماضي زاد منتج السيارات الألماني من تعرضه للصين بشرائه حصة في شركة تقنية متقدمة تنتج البطاريات، وحصة في إنتاج السيارات الكهربائية.
والقيام بإنتاج السيارات الفرنسية في المغرب جاء في الحقيقة مستهدفا أسواق تصدير محددة هي أفريقيا والشرق الأوسط، وليس على حساب الاستثمارات في الصين، وقد سبق تفشي فيروس كورونا.
وما يعطي الصين حتى الآن الأفضلية هو ما يشير إليه أحد مصنعي الأحذية الرياضية الإيطاليين من أن تكلفة إنتاجه في الصين أقل بمقدار 75% من إيطاليا، ولذلك فإنه لا يمكنه قطع هذا الإنتاج وإعادة توطين خط إنتاجه الصيني.
ومما يدعم استمرار الدور الصيني هو نتيجة الاستطلاع الذي قامت به الغرفة التجارية الأوروبية في الصين بين الشركات الأوروبية العاملة هناك، والذي تضمن سؤالا واحدا هو "هل تفكر شركتك حاليا أو تخطط لنقل استثماراتها في الصين إلى أسواق أخرى؟" وكانت إجابة ما يزيد على 90% من الشركات الأوروبية بالنفي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة