وسط أزقة وشوارع ضيقة مكدسة بكتب وروايات قديمة رائحتها تسحر أنوف المارة بجوار حديقة الأزبكية، يتردد العشرات يومياً على سور الأزبكية.
"سلام من صبا بردي أرق، ودمع لا يكفكف يا دمشق" ألقى الشاعر المصري أحمد شوقي هذه الأبيات في حديقة الأزبكية منذ نحو 90 عاماً، وفي نفس المكان وبالقرب من تمثال إبراهيم باشا بميدان العتبة وسط القاهرة أقيمت أكبر ساحة ثقافية، وأصبحت المصدر الأول للمصريين والعرب في شراء الكتب الأدبية والتاريخية والثقافية والمترجمة والروايات.
ووسط أزقة وشوارع ضيقة مكدسة بكتب وروايات قديمة رائحتها تسحر أنوف المارة بجوار حديقة الأزبكية، يتردد العشرات يومياً على سور الأزبكية، سائلين على نسخة من رواية "يوميات نائب من الأرياف" لتوفيق الحكيم، باحثين عن نسخة من كتاب تاريخي يحكي قصة بناء القاهرة الفاطمية، بهذه الأجواء يعيش باعة السور حياتهم المهنية، التي توارثوها أباً عن جد.
وبمدخل الأزبكية، يجلس رجل فوق الستين عاماً، ممسكاً بإحدى الصحف، بين أرفف مليئة بالمراجع والكتب التاريخية، الكتب التي قرر بيعها "علي الشاعر"، صاحب أحد الأكشاك الموجودة بسور الأزبكية.
الشاعر الذي ورث المهنة من أجداده، كرس حياته للعمل بها منذ أكثر من 50 عاماً، ليصف سور الأزبكية بـ"المتحف" الذي يضم كل أنواع الكتب القديمة والنادرة، والمجلدات الفاخرة التي لم تعد تطبع حالياً، ليستوعب هذا الملتقى الثقافي كل أسماء الكتب الرنانة، ويقدمها بأسعار تناسب جميع الطبقات المجتمعية.
تنوع الكتب والروايات
وعن أنواع الكتب التي يقدمها لقرائه الدائمين، اعتاد الشاعر أن يعرض في مكانه الصغير، الكتب التاريخية والمجلدات والمراجع التي تحمل أسرار لمواقف وأماكن أثرية، فضلًا عن وجود كتب قانونية، وروايات قديمة وكتب لغوية، بحكم دراسته وخلفيته الفكرية في الأدب والتاريخ، ليتردد عليه أساتذة القانون والفلسفة والطلبة والباحثين.
ويطمئن الشاعر في حالة سؤال بعض القراء على المراجع، والقصص والأشعار والأدبيات وكتب المسرح، ليقول في حديثه مع بوابة العين الإخبارية، إن "كتب الشعر والأدب والقصص المسرحية، لا تزال تحتفظ بقراء يقبلون على شراء طبعات قديمة غير متوفرة بالمكتبات الأخرى، كما يعد سور الأزبكية الوجهة الأولى وقبلة الباحثين والدارسين بكليات الطب والصيدلة والعلوم، والذين يعدون الدراسات الحرة من الماجستير والدبلوم، خاصة أن هذه المراجع باهظة الثمن وغير متوفرة طوال الوقت خارج أكشاك ومكتبات السور".
وتظل الكتب السياسية ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً داخل السور، ليستمر إقبال القراء من الشباب وكبار السن، على النسخ القديمة منها، ويذكر الشاعر أن كتب محمد حسنين هيكل وبطرس غالي وفهمي هويدي ورفعت السعيد تتصدر طلبات المترددين على السور.
كما تتصدر كتب الدراسة الخارجية قائمة الكتب الأكثر إقبالاً في سور الأزبكية حالياً، ويرجع الشاعر سبب إقبال الأسر والطلبة في المراحل التعليمية المختلفة على شراء الكتب المدرسية الخارجية من الأزبكية، إلى سوء الظروف الاقتصادية وارتفاع الأسعار لخامات الورق والتجليد.
مصادر الكتب
وعندما تمر بداخل سور الأزبكية، تلاحظ تنوع في أعمار وطبقات القراء والمترددين، كما تلاحظ تنوع كبير في طبيعة الكتب والروايات المعروضة أمام وداخل الأكشاك، ويعتمد بائعي السور منذ أكثر من 110 أعوام على مصادر متعددة.
ويعدد الشاعر أكثر من مصدر، شارحاً أن المكتبات الخاصة بالشخصيات العامة والقامات الفكرية، هي مصدر أساسي لتقديم الكتب النادرة والطبعات القديمة والسياسية، فضلاً عن تقديم بائعي "الروبابيكيا" بعض الكتب والنوادر التي يحصلون عليها من بعض المنازل، لإغفال الكثيرين لقيمة الكتاب.
ويعود ذلك بالنفع على رواد وبائعي السور، وفي الوقت نفسه تتبرع الجاليات الأجنبية في مصر، بمقتنياتها من الكتب والروايات للسور.
الأزبكية ..هرم رابع ومزار للجميع
"مزار لكل الدول العربية وهرم رابع بمصر" هكذا وصف الشاعر حال السور والمترددين عليه، فإلى جانب تردد الطلبة والباحثين وأساتذة القانون، يفضل الكثير من العرب زيارة السور.
ويقول الشاعر، إن "العرب يقبلون على زيارة السور كزيارة المتاحف والأهرامات" مؤكداً أن سور الأزبكية يحتفظ بقيمة ومكانة لا ينافسه أي سور ثقافي بالعالم.
ويضيف أن السور يحتوي على 133 مكتبة وكشك، وكتب باللغات اليونانية والإنجليزية والألمانية، وكتب من أوائل القرن العشرين.
الإماراتيون يتصدرون الشعوب العربية المترددة على السور، يليهم السعوديون واليمنيون والكويتيون والسودانيون، إضافة لسفراء وممثلي بعض الدول الأجنبية.
"السور معلم من المعالم الثقافية، ليس في مصر فقط، بل بالعالم العربي" هكذا يرى محمد كمال إمام، أستاذ القانون بجامعة الإسكندرية، والذي يعتبر من أقدم رواد السور منذ أكثر من 50 عاماً.
ويعتبر إمام أن وجوده بسور الأزبكية يهدف للقاء الكتب والأصدقاء والباعة، كما شارك إمام في حملة تواقيع عام 2007 لمنع نقل السور من مكانه، وهي حملة قادها بائعو ورواد السور.
أسعار الكتب ومستوى الإقبال
ومع زيادة أسعار الأحبار والورق الطباعة، يتحدث الشاعر بلهجة مليئة بالثقة قائلاً "تقل القوة الشرائية لأي سلعة بطبيعة الحال مع الأزمات الاقتصادية، والكتب ينطبق عليها نفس الأمر، ولكن بالرغم من الزيادة التي طالت كتب السور خلال الشهرين الماضيين، إلا أن سور الأزبكية هو المكان الوحيد الذي يقدم كتب رخيصة الثمن".
وأشار الشاعر إلى أن فترة الخمسينات والستينات والسبعينات، كانت أكثر الفترات رواجاً في الحياة الثقافية، وشهد السور وقتها إقبالاً كبيراً.
ومع ظهور التكنولوجيا وشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، تراجعت الحركة الشرائية للكتاب بشكل عام، ولكن متعة تصفح الكتاب القديم ورائحة الصبغة التاريخية، قد تجبر القارئ للعودة إلى سور الأزبكية.
منافسة معرض الكتاب وسور الأزبكية
ومع اقتراب معرض القاهرة الدولي للكتاب، تحرص المكتبات المشاركة بالمعرض التي يصل عددها إلى أكثر من 200 مكتبة وكشك من القاهرة والإسكندرية على تجميع نسخ طوال العام من الكتب والروايات.
ويقول الشاعر، إن "أي شخص معه أكثر من 5 جنيهات مصرية يستطيع شراء مجموعة كتب"، ومقارنة بأسعار باقي مكتبات المعرض يصبح السور هو المكان الذي يوفر كتب متنوعة بأسعار رخيصة.
وتذكر ندى سعيد، طالبة جامعية اعتادت الذهاب للسور منذ عامين، أن الجناح الخاص بالسور يوفر لها جميع الكتب التي تفضلها من الروايات المترجمة وقصص الخيال العلمي والطبعات القديمة التي تجد متعة في الاحتفاظ بها.
ولحرصها على ترسيخ شعار "القراءة غذاء العقل" مع أبنائها، تذهب سحر شعراوي، محامية، بشكل دائم للسور، لتجد في هذه المكان مميزات عديدة بتنوع الكتب ورخص الأسعار.
وتقول شعراوي، إن "ركن الأزبكية مفضل لي بمعرض القاهرة للكتاب، واصطحب الأسرة لشراء جميع الكتب بداية من كتب القانون وروايات إحسان عبد القدوس، وصولًا لمجلات ميكي".
بدوره دعا أستاذ القانون إمام، المكتبات المعروفة ودور النشر المتواجدة بمعرض الكتاب، إلى خفض الأسعار والانصراف عن تحقيق مكاسب مادية، والبحث عن طرق لإيصال الكتاب لجميع القراء، وأن يقتدوا بالعاملين في السور في دعمهم للكتاب بأسعار منطقية وخصومات تجذب القارئ.