يوسف الشاروني.. قرن من الإبداع والثقافة
يوسف الشاروني ظاهرة أدبية وإبداعية متفردة شيّد عالما شديد الخصوصية من الإبداع القصصي اكتملت صورته وقيمته بكثير من كتاباته النقدية.
اثنان وتسعون عاما، ستون كتابا، رصيد زاخر من المحبة والعلاقات الإنسانية وحضور لم يخفت حتى اللحظة الأخيرة.. لعل هذا ما يوجز رحلة الكاتب والقاص والناقد المصري يوسف الشاروني (1924-2017) الذي غادر عالمنا، الخميس، عن اثنين وتسعين عاما، تاركا مساحة شاسعة موقعة باسمه وإبداعاته وإنجازه الأدبي في تاريخنا المعاصر. ويوسف الشاروني ظاهرة أدبية وإبداعية متفردة، شيد عالما شديد الخصوصية من الإبداع القصصي، اكتملت صورته وقيمته بكثير من كتاباته النقدية التي تميزت بمذاقها الخاص، ونفاذ بصيرة صاحبها في الأعمال الأدبية التي تناولها بالتحليل والدراسة، متكئا في ذلك إلى حسه الإبداعي المجرب ووعيه المعرفي المترامي الأطراف.
ولعل مؤرخي فن القصة القصيرة، على وجه الخصوص، سيتوقفون طويلا أمام إبداع يوسف الشاروني في مجال القصة، وقد ترك فيها ما لا يقل عن عشر مجموعات، كان صدور أولها "العشاق الخمسة" في منتصف الخمسينيات، إيذانا باجتياز أشواط بعيدة في مسيرة هذا الفن العبقري في الأدب العربي.
منذ ذلك التاريخ 1954، وكان الشاروني آنذاك في الثلاثين من عمره، بدأ إبداعه المستمر، وفيض إنتاجه المتلاحق والتفت النقاد والدارسون والجمهور الأدبي إليه منذ ذلك الحين، لتمايزه عن إبداع ذلك الزمان -الذي أصبح بعيدا- لغة وروحا وأسلوبا وتناولا فنيا، وعالما من الاهتمامات والشواغل الإنسانية والنفسية لم يعرفه سواه.
منذ ذلك الحين، وكما يرصد الراحل فاروق شوشة، وإبداع يوسف الشاروني في مجال القصة، وفي مجال الدراسة الأدبية والنقدية، وفي مجال التفاعل مع التراث العربي "عجائب الهند وأخبار الصين والهند"، وفي مجال الترجمة لأعمال مختارة من المسرح العالمي وكتاب عن دول الخليج العربي، وغير ذلك من المجالات، إبداع لا يتوقف، وعكوف جاد صبور على إكمال مشروعه الذي يكبر ويتسع باستمرار، على الرغم من تأخر الحياة الأدبية والثقافية في الاعتراف به وبمكانته الريادية، والالتفات إلى موجات وموضات عاصفة وطارئة، كان يستقبلها دائما بإيمانه العميق بما يكتبه، وثقته في النهج الذي اختاره، غير ملتفت إلى انحسار الضوء عنه في بعض الأحيان، لكنه استطاع أن ينجو من كثير من المرارات التي تترسب في نفوس المبدعين الحقيقيين حين يجدون الفرص متاحة ومبذولة وسهلة لأنصاف المبدعين.
عن إبداع يوسف الشاروني القصصي، قال أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ: "لقد انتهيت في القصة القصيرة لما بدأ به يوسف الشاروني"، كان ذلك في مرحلة مبكرة، فشهرته الأدبية تصاعدت بالتزامن مع شهرة يوسف إدريس في منتصف الخمسينيات عقب صدور مجموعة "العشاق الخمسة" للشاروني ومجموعة "أرخص ليالي" ليوسف إدريس. ومنذ ذلك التاريخ واصل الشاروني كتاباته القصصية، وترجماته، ودراساته النقدية على امتداد أكثر من نصف قرن.
نقاد كثيرون، خصوا الشاروني بإضاءاتهم وقراءاتهم، وأجمعوا على أنه أسهم في تطوير أدوات كتابة القصة القصيرة خاصة خلال الخمسينيات والستينيات عبر تركيزه على عناصر الجدة والتجريب في التقنيات القصصية، ومنها، كما يقول الناقد أحمد درويش، التركيز على "قابلية القص" في الأحداث العادية، وحتى في المشاهد العادية التي قد تخلو من الأحداث، متجاوزا بذلك فكرة "غرابة الحكاية" التي كانت من قبل تشكل مُسوغا رئيسيا لدخول حدث من أحداث الحياة مجال الفن القصصي. ولم تعد القصة، من ثم، وسيلة من وسائل التسلية، بقدر ما أصبحت وسيلة لإثارة كوامن التوتر والقلق، بل لإثارة التقزز أحيانا من خلال التأمل في "الُمقرف الُمضحك"، على حد تعبيره هو نفسه في عناوين إحدى قصصه.
كذلك من التقنيات الفنية التي كان الشاروني من خلالها واحدا من رواد تطوير فن القصة القصيرة تقنية "التناص"؛ حيث يحاول الشاروني منذ أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات في القرن العشرين، التناص مع شخصيات من أعمال أخرى كما فعل مع شخصيات "زقاق المدق" لنجيب محفوظ، من خلال قصتيه "زيطة صانع العاهات" و"مصرع عباس الحلو" في معالجة قصصية لشخصيتي نجيب محفوظ.
إضاءة تاريخية
ولد يوسف الشاروني في 14 أكتوبر من العام 1924، ويرجع لقبه إلى قرية شارونة من أعمال محافظة المنيا في صعيد مصر. حصل على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب جامعة القاهرة (1945)، وبدأ حياته الفنية بكتابة القصة القصيرة في أواخر الأربعينيات، ثم زاوج بين القصة القصيرة وألوان أخرى من النشاط الأدبي مثل: الدراسات النقدية، والترجمة، وإن بقيت كتاباته القصصية، تشكل أبرز إنتاجه، وتمثل الإضافة الحقيقية التي قدمها للحركة الأدبية المعاصرة.
وفي سجل إبداع يوسف الشاروني ورحلته الطويلة المدهشة مع القصة القصيرة أعمال بارزة ولافتة؛ إذ صدرت له تسع مجموعات قصصية خلال الفترة بين عامي 1954 و2000 مثل "رسالة إلى امرأة"، "الزحام"، "حلاوة الروح"، "مطاردة منتصف الليل"، "آخر العنقود"، "الأم والوحش"، "الكراسي الموسيقية"، "الضحك حتى البكاء" و"أجداد وأحفاد".
كما ترك كتبًا تكشف عن رؤاه النقدية وإسهامه المبكر في مجال الدراسة الأدبية والنقدية، مثل "دراسات أدبية"، "دراسات في الأدب العربي المعاصر"، "دراسات في الحب" (أعيد نشره بعنوان "الحب والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة")، "دراسات في الرواية والقصة القصيرة"، "اللامعقول في الأدب المعاصر"، "ومضات الذاكرة" (سيرة ذاتية)، "نماذج من الرواية القصيرة"، "الروائيون الثلاثة- محمد عبدالحليم عبدالله ونجيب محفوظ ويوسف السباعي"، "رحلتي مع الرواية"، "الخيال العلمي في الأدب العربي المعاصر"، "من جراب الحاوي"، "الأذان في مالطة" و"موسوعة مؤلفات عن سلطنة عمان" التي قضى فيها عدة سنوات وغيرها من مفردات سجله الحافل.