المقلق في الأمر اليوم ليست المشاكل والمصاعب والأزمات التي تمر بها أمتنا، بقدر الجهل الذي تتخبط فيه عقولها.
قال صديقي العالم منذ سنوات ضاحكا أنه عندما اجتمع بأصدقاء وقال أحدهم: "نحن الآن وصلنا الحضيض"، قال: غضبنا منه وقلنا منذ عشرات السنين ونحن نكرر هذه الكلمة التي أتوقع أنها ستبقى إرثا لأبنائنا كما ورثناها نحن عن الآباء منذ توالي النكسات.
والسؤال الآن هو إلى أي عمق يمكن أن ننزل وأين هو الحضيض الحقيقي؟
والحديث أساسا عن أمتنا العربية الإسلامية، وما آلت إليه أمورها من تدهور اقتصادي واجتماعي انعكس على كل المنظومات والتي من أهمها المنظومة القضائية، والتربوية التعليمية والأخلاقية.
تخطي الذات والانفتاح على الآخر وقبول الاختلاف، وقبول التغيرات والتمتع بمرونة التعامل معها هي بداية الحل للخروج من الأحقاد والكراهية التي أودت بنا لما نحن فيه، والأخطار المقبلة أكبر وأخطر إذا لم نتغير روحا وعقلا وعملا ونراجع كل ما نقوم به.
والمقلق في الأمر اليوم ليست المشاكل والمصاعب والأزمات التي تمر بها أمتنا، بقدر الجهل الذي تتخبط فيه عقولها.
حديث المقاهي وتناقل الشائعات التي لا صحة لها ليس مقلقا بقدر ما يعتبر خطرا اليوم هو جهل "النخبة"، وتقاعسهم عن التواصل والتعاون.
ما يلاحظ اليوم هو تركيز النخب على تقنص أخطاء بعضهم، وتحين الفرص لمهاجمة أي رأي يخالفهم، في ظل غياب أبسط قواعد الانفتاح والتفهم، كيف يمكن لهؤلاء تفهم هموم أمتهم والبحث معا عن الحلول؟.
اليوم مزق الإرهاب والفكر الإخونجي الداعم له أممنا، تشتت الشعوب وسقطت المؤسسات والدول، مما زادنا تفرقة ورفضا لبعضنا البعض، تخوفا على أمن دولنا مما قد يحمل إخواننا الوافدون "الغرباء" عنا من دولهم المنكوبة.
وليست المخاوف من المتاع والأمتعة بقدر ما هي مخاوف مما في "العقول" الوافدة، ولا لوم على أحد أو نظام يحاول حماية بلاده وأمن شعبه.
لأن الخطر تجاوز الأشخاص وما يحملون وتجاوز المكان والزمان، ونخبنا تعمل بسياسة الفعل ورد الفعل، متربصون ببعضهم البعض يتبادلون إلقاء تهم مخزية في زمن غابت فيه الحكمة والعقل والحياء.
غض النظر عن المشاكل الحقيقية يمكن أن يعكس مجموعة من الأسباب تختلف باختلاف المكان والزمان والتوجه.
لكن الخطر الحقيقي هو اللغط الذي يعيشه المثقفون العرب والمسلمون في الغرب على وجه التحديد، والذين يعيشون في جو من الكره والتفرقة فرضوه على أنفسهم وينوون توريثه.
بين يساريين وإخونجية انقسموا...وضاع الليبراليون المعتدلون بينهم، فهم يفكرون بسياسة من ليس معي فهو ضدي، وهنا الخطأ الثاني.
بالإضافة إلى التفرقة الطائفية التي نقلوها إلى دول الغرب أيضا، وأذكر جيدا عندما كنت أقدم دروسا مسائية في أحد معاهد لندن وحضرت في إحدى الأمسيات لأجد الفصل خاليا، وعندما نزلت نحو مكاتب الإدارة للسؤال اعترضني شاب في مقتبل العمر من طلابي وكان يرتدي الأسود على غير عادته، وسألته عن سبب الغياب قال :"ميس إنها عاشوراء.. فأخبرته أنها عاشوراء بالنسبة لي أيضا لكن المعهد مفتوح والمفترض أن لنا درسا، أجابني بجواب صدمني وقتها لما حمله من حدة في لهجته قائلا : عاشوراء بالنسبة لنا غير....
الخلافات الأيديولوجية والطائفية غيبت العقل والحكمة، والمشكلة الرئيسية اليوم هي تهرب النخب من مسؤولياتهم، كل من موقعه.
ولا يمكن أن نتغلب على هموم أممنا وعلى المخاطر فيها والتي على رأسها الإرهاب بدون التوصل إلى توافق وإيمان حقيقي بأن مصيرنا واحد، وعلينا تجاوز كل خلافاتنا والشروع في وضع استراتيجيات على المستوى القصير والمتوسط والبعيد بحسب الأولويات والمخاطر.
ونحتاج هنا إلى تحريك الآلة الإعلامية وصناعة وسائل تسير في الاتجاه الصحيح، كل دولة من جانبها لنصل في النهاية إلي فكر موحد.
والبحث عن حلول تخص الدول العربية والإسلامية التي تمر بأزمات في الوقت الراهن، لا يمنع بل يستوجب الاستعانة بالنماذج الناجحة منها مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك الاستعانة بالدول الغربية التي لا تمتنع عن التعاون.
فالاستفادة من تجارب الآخرين الناجحة هي ضرورة لا خيار، كما أن هذه الدول وفي مناسبات متعددة أعربت عن استعدادها لدعم دولنا في وضع برامج تعليمية خاصة أو في تعزيز الروح القيادية لدى الشباب وغيرها من المشاريع، ومنها خاصة كندا التي تبدي حرصا متواصلا على عرض برامج التعاون خاصة بالنسبة للمجالات العلمية والتعليمية، ولا نفهم فعلا أسباب تردد مسؤولينا وقياداتنا في قبول أو على الأقل النظر في مثل هذه المقترحات والشروع فيها.
لكن يبدو أن عدم الاستقرار الذي تمر به المنطقة، والتغيرات السياسية السريعة تجعل أصحاب المناصب حذرين في اتخاذ أية قرارات لأنهم لا ضمانات لديهم في استمرارهم في مناصبهم، وهذه معضلة أخرى مرعبة إذا ما نظرنا إلى الجيل المقبل ومستقبله.
تخطي الذات والانفتاح على الآخر وقبول الاختلاف، وقبول التغيرات والتمتع بمرونة التعامل معها هي بداية الحل للخروج من الأحقاد والكراهية التي أودت بنا لما نحن فيه، والأخطار المقبلة أكبر وأخطر إذا لم نتغير روحا وعقلا وعملا ونراجع كل ما نقوم به، وليس عيبا أبدا الاعتراف بأخطائنا لأن الحقيقة والحق والعدل هي الطريق الوحيد نحو الخلاص.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة