"الجدة فاطمة".. عجوز فلسطينية تنتصر للتراث بسعف النخيل
"العين الإخبارية" التقت الحاجة فاطمة اللحام، 72 سنة، في بيتها القديم، لتكشف عن تجربتها في حرفة قضت من أجلها جل عمرها
في الـ72 من عمرها تفترش الأرض، وتجلس القرفصاء، أمامها سعف النخيل ويابس من نبات الحلفا، وإبرة معروفة باسم "ميبرا" تتشابك بين أصابعها بخفة اكتسبتها عن تجربة 50 سنة، في حرفة صناعة السلال والأطباق والأكواب، وما يخطر على بالها، وما يطلب منها، وكل ذلك انتصاراً للتراث الفلسطيني.
"العين الإخبارية" التقت الحاجة فاطمة اللحام، "الجدة فاطمة" في بيتها القديم، لتكشف عن تجربتها في حرفة قضت من أجلها جل عمرها.
بدايات متعبة ومشوار يحوّل سعف النخيل إلى تراث
بدأت حكاية القش وصناعة السلال والصحون والأواني مع الحاجة فاطمة، منذ أن كانت في الـ15 من عمرها، يوم أن أجلستها والدتها قربها لتعلمها كيف تمسك "الميبرا" (الإبرة) وتدخل من ثقبها سعف النخيل المجهز قبلاً لتكوين الأنية المطلوبة، ومنذ تلك اللحظة كانت الفكرة مساعدة الأم، وعندما طويت السنين عمرها، وجدت نفسها تحافظ على تراث قديم يكاد يندثر بفعل الطفرة الصناعية، وتقدم الحياة، وواجهت بتحدٍ مرير كل مبررات ترك هذه الحرفة، واللجوء لعمل مختلف.
وتقول الحاجة فاطمة: "تحت ضغط الأهل توقفت عن صناعة القش لسنوات وانصرفت إلى حياكة الملابس والزراعة في الأرض، لكنني لم أطق ذلك، وعدت قبل 50 سنة لأكمل مشواري في صناعة الأواني من سعف النخيل والحلفا، وأشعر اليوم أنني أفعل ما تراجع عنه أغلب الناس، وهو محافظتي على التراث القديم، ووصية والدتي أن أكمل مشوارها، فالمسألة لا تتعلق بالدخل المالي، ولا بساعات التعب الطويلة، بقدر ما تتعلق بفرحتي وأنا أرى جهدي يثمر، وأحول سعف النخيل اليابس إلى أوانٍ وأشكال، أصبحت اليوم محض اهتمام المؤسسات والأشخاص المعنية بالدفاع عن التراث والأصالة".
حرفة القش.. سياحة الذاكرة في ماضٍ جميل
لا يغيب عن ذهن الحاجة فاطمة صورة والدتها وهي تمسك "الميبرا" بأطراف أصابعها، ولسانها يسرد قصص الليالي الجميلة قبل الاحتلال وتغير الأحوال، فتقول: "جانب هام يدفعني إلى التمسك بصناعة القش، وهي ذاكرتي التي تعيدني إلى حكايات أمي رحمها الله، عن الأعراس وتجهيزها، والأفراح وأيامها في خان يونس جنوب قطاع غزة، فهذه الحكايات أستحضرها كلما مررت سعف النخيل وحشوة الحلفا معها لحبكة الغرزة، وتمتين السلال أو الأطباق، وكلما تعسرت حبكة، كررت المحاولة وأنا شاردة بذهني إلى أيام الماضي البعيد، فهذا دافع يبقيني متمسكة بهذه الحرفة، إضافة إلى أنها حرفة غير مكلفة، وكل ما تحتاجه جهد يقوم به زوجي أو أحد أبنائي لجمع سعف النخيل المزروع حول الدار، وشراء نبات الحلفا من السوق، ونقعها بالماء الساخن لأيام ومن ثم وضعها في الظل فترة، وتحضيرها للحبكة وتحضير الأواني، فهذه الحرفة تعيد لي روحي، وقد وجدت نفسي متمسكة بها رغم دخلها القليل وتعبها الشديد وأنا في هذا العمر، إلا أنني أرتاح كلما زارني مهتم بما أنتج ليشتري ولو كوباً من قش يضعه كتحفة في مكتبه أو بيته".
المهتمون قلائل والتراث أمانة
لا تكل الجدة فاطمة من مواصلة حرفتها، على الرغم من قسوة المعيشة، ومن يتفحص دارها يجد أنها تعيش في غرفة من صفيح، ومطبخ متواضع يكسوه البلاستيك، وبعض الحجارة غير المترابطة، وأرضية من قشرة أسمنت فقيرة، وباحة من الرمل، تقضي عليها أغلب وقتها لتصنع "المرجونة" وهي آنية كبيرة نسبياً يحفظ فيها الخبز أو الطعام، بالإضافة إلى صناعة صواني الشاي، والقهوة، وآنية للبيض.
وتضيف: "بدأت بعض المؤسسات الكبيرة تقديم طلبات خاصة لكي أقوم بعملها مثل الجرار الكبيرة، والسلال المعلقة، ويرسمون الأشكال التي يريدونها وأنفذها حسب طلبهم، وقد نجحت في ذلك، وهذا ما دفع هذه المؤسسات لمشاركة أعمالي في المعارض الخاصة بالتراث، وقمت بتدريب الحرفة لمجموعة من الفتيات والشباب في أحد المعاهد، ونجح بعضهم في إنتاج بعض الأواني من سعف النخيل والحلفا، وهناك من يطلب مني أن أنتج له أشكالا خاصة كحافظة للأقلام والأوراق، أو فناجين قهوة ولا أتردد بتلبية ما يطلب مني، وإن كان الدخل المادي لا يتناسب والجهد الذي أبذله".
الخليج العربي مصدر إلهام لحرفة القش في غزة
وتتابع الحاجة فاطمة، وهي أم لولدين و6 بنات كلهم متزوجون، وتعيش مع زوجها المسن وحيدين في دارهما المتواضعة جداً: "صناعة الأواني من سعف النخيل والحلفا مصدرها دول الخليج، ولكن هذه الحرفة هناك أكثر تطوراً بحكم مهارات مكتسبة واهتمام المؤسسات والحكومات بها، ولكننا في قطاع غزة، ولا أعرف غير شخص واحد يبادلني حرفة القش، نفتقد إلى الاهتمام بحرفتنا من الحكومة، وقد تمنيت من بعض المسؤولين توصيل صوتي إلى وزارة السياحة والتراث، لدعمنا ولو بالقليل لتوفير نبات الحلفا الذي أصبح نادراً في قطاع غزة، وقد وعدوا ولكنهم لم ينفذوا، وأخشى على حرفة القش من الاندثار في حال بقي الإهمال سيد الموقف، وما يثلج صدري أنني أسمع عن نساء في الضفة الغربية ينشطون بحرفة القش، وحلمي أن أشارك في معرض كبير لاستعراض بعض ما أنتجته عبر مسيرتي الطويلة".
aXA6IDMuMTQ5LjIzOS43OSA= جزيرة ام اند امز