قد يتوارد لأحد دارسي الفلسفة المتعمقة في الدين، أنها عملية عقلية استنباطية، تحليلية قائمة على العقل، الأمر الذي يشكل علامة استفهام تجدنا ونجدها في كل مضمار بحثي يتطلب الموضوعية والحياد.
فهل استطاع الفلاسفة بالفعل فصل التفلسف الديني عن قوالب التفكير الموروث، وجياشة العواطف، والنزوع النفسي والعاطفي؟
ثنائية العقل والقلب، شكلت إحدى موضوعات فلسفة الدين القريبة من ذات الإنسان، والملامسة لوجدانه الباحث عن الدين أو التدين، وهنا تقاذفت الفلسفات، سيالاتها العصبية الباحثة عما إذا كان منبع الإيمان واردا من العقل، أم من القلب، أم هو نتاج تمازجي بينهما.
وقد شكلت هذه الإرهاصات لظهور "النزعة الإيمانية" "fideism"، أو ما يدعى بـ"الإيمانيات" في الفلسفة، التي لمع في سمائها فلاسفة عدة، أبرزهم: "بليز باسكال، وسورين كيركجور، ولودفيج فيتجنشتاين، ووليام جيمس".
وقد شكلت هذه النظرية الإبستمولوجية "الإيمانيات"، صوتاً بارزاً يدعم الإيمان على العقل، موردةً ما يقارب التنافر بينهما، فلا يستوي في ألفبائيات الفلسفة الدينية أن يتوازى العقل مع الإيمان، الذي يتولى مهمة إيصال العقل النهم إلى الحقائق المتعلقة بـ"اللاهوت الطبيعي".
يقول الفيلسوف دانيال هاورد: "إن مشكلة الشرّ هي مشكلة للملحد، أو لمن وجد مقدّمات المشكلة واستنتاجاتها مقنعة، وكانت أسباب قناعته بوجود الله هشة، أما إذا كان للمؤمن حجة صلبة فإن وجود الشر ليس مشكلة"، وفي سياق ليس ببعيد، فإن هذا القلب والعقل يقع في مأزق آخر يرتبط ارتباط الجسد بالروح فيما يواجهه من تحديات الواقع المعيش، ولذا يتناول التفلسف الديني ما يدعى بـ"مشكلة الشر"، والتي تعبر عن مجموع التحديات النفسية، والجسدية، وغيرها، وكيف يمكن للإنسان أن يوازن بين ذلك و"تركيبته الاعتقادية" المتشربة بالإدراك الفلسفي الذي يتناول القدرة الإلهية، والرحمة الشاملة.
وتعتبر "مشكلة الشر" إحدى تحديات الفرد نفسه في تحديد تموقعه ضمن ثنائيات "الإيمان والإلحاد"، فيقول الفيلسوف الأمريكي مايكل تولي: "الحجة المركزية للإلحاد الحديث هي حجة الشر"، التي وصفها الشاعر الألماني الملحد جورج بوخنز بأنها "صخرة الإلحاد".
وفي السجالات المتحاذقة في هذا السياق، أورد الفيلسوف الأمريكي رونالد ناش، ما يمكن اعتباره تلخيصاً لمشكلة الشر، إذ يرى أن: "الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي، لكن كلّ الفلاسفة الذين أعرفهم يؤمنون بأن أهمّ تحدٍّ جادٍّ للإيمان بالله كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر".
وقد ورد في تفسير "مشكلة الشر" لدى الفلسفة الإسلامية تفسير سامي العمري، الذي يرى أن: "التصور الإسلامي لوجود الشرّ في عالم الناس ليس مجانيًا، وإنّما وهب الله الناس حرية الإرادة، لأنه سبحانه يريد أن يختبرهم على هذه الأرض"، وكل رأي يجد ما يوافقه ويناقضه.
لم تتوقف الفلسفة الدينية عن محاولاتها استقراء ومقاربة كل ما يشكل جزءاً في "الهم الإنساني الديني"، مسترسلة في شروحات الوحي، والإيمان، ومتناولةً مادة دسمة تحدق في خواطره كافة، التي تتعلق في فضوله القديم والمستقبلي، من خلال ضم قضايا البعث، والقيامة وثنائية الثواب والعقاب، وإيجاد مسار نقدي عن الخلود، ومتعلقاته من التناسخ.
كما فرّقت وجمّعت بين الدين والعلم، والدين والأخلاق، وماهية التعدديات الدينية، وبواعث فلسفة فن التأويل وفهم النصوص أو "الهرمنيوطيقا" الذي يتحسس تضاريس تطور دراسة نظريات التفسير والفنون وإمعانات فقه اللغة، واللاهوت، والنقد الأدبي.
ومن ذلك نخلص للإنجازات الفلسفية في سياق الدين، التي عملت على تفتيت المعوقات الدلالية، وبناء مضمار "دائم الحركة"، يوازن بين الإنسان ورسالة المقدس.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة