تناول الصـديق العزيز الدكتور جلال أمين تحليل الوضع الاقتصادي المصري في مقال مهم بعنوان الفكر الاقتصادي ... وأزمتنا الراهنةب.
تناول الصـديق العزيز الدكتور جلال أمين تحليل الوضع الاقتصادي المصري في مقال مهم بعنوان الفكر الاقتصادي ... وأزمتنا الراهنةب. وفي هذا المقال أكد الدكتور أمين أن الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر، برغم شدتها وقسوتها، ليست بالطبع فريدة من نوعها في العالم، ولا في التأريخ الاقتصادي المصري.
وفي اشارته عن الأزمة العالمية في الثلاثينيات، أشار الدكتور أمين الى ان الأزمةالمشار اليها قد عانى منها معظم الدول باستثناء، «الدول الاشتراكية»، والتي فرضت على نفسها سياجا منيعا من الاعتماد شبه الكامل على النفس. أما الأمر الثاني الذي أشار اليه فيرجع الى الدور الريادي الذي لعبه الاقتصادي الانجليزي الشهير جون مينارد كينز في تغيير الفكر الاقتصادي. فما سر هذه الوصفة السحرية التي قضت على الأزمة الاقتصادية العالمية؟ السر يتلخص في رأي الكاتب في ضخ المزيد من الانفاق العام (أي الحكومي) وتشجيع الانفاق الخاص، بتخفيض الضرائب (لتشجيع الانفاق العائلي) وتخفيض سعر الفائدة (لتشجيع الاستثمار) وزيادة الانتاج عاماً وخاصاً، وأنه من خلال المضاعف سوف يزيد من هذا الانتاج.
فهل هذا صحيح؟ وهل هو كاف؟ هذه هي الأسئلة.
هل نجحت الاشتراكية في مواجهة تلك الأزمة العالمية؟:
عندما قامت الأزمة العالمية في الثلاثينيات من القرن الماضي، لم تكن هناك سوى دولة اشتراكية واحدة هي الاتحاد السوفيتي. والسؤال هو هل جاء العلاج الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي آنذاك بنتائج أفضل من اقتصاديات السوق؟
الحقيقة أن النظام الاشتراكي قد واجه مشاكل اقتصادية هائلة بعد الثورة البلشفية. فبعد سياسة التأميم التي بدأها لينين، واجه الاتحاد السوفيتي أزمة اقتصادية بالغة القسوة، مما دعاه الى اتخاذ توجهات جديدة، أطلق عليها السياسة الاقتصادية الجديدة، وذلك باعادة دور السوق وتشجيع المزارعين على بيع انتاجهم الزراعي في الاسواق مما أدى آنذاك الى انتعاش الاقتصاد. وعندما تولى ستالين الحكم بعد وفاة لينين، فقد تخلى عن سياسة سلفه، وبدأ مرحلة الانتاج الجماعي collectivization حيث واجه مقاومة عنيفة من الملاك، وبدأ بما يعرف بالتطهير العظيم Great Purge وكانت فترة رعب أدت الى ارسال عشرات الملايين من المعارضين الى سيبيريا، وعرفت روسيا آنذاك (1932-1933) شبه مجاعة. وفي الوقت نفسه، وضع ستالين الاتحاد السوفيتي داخل ستار حديدي يحول دون الاتصال الخارجي، وضبط الاستهلاك المحلي، لتوفير المدخرات بأساليب قمعية شديدة القسوة.وفي نفس الوقت فان قيام الأزمة العالمية في العالم الرأسمالي، قد ضيقت من فرص الاستثمار في الدول الصناعية، مما دعا العديد من رجال الأعمال في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الامريكية، للبحث عن فرص الاستثمار خارج بلادهم، وكان وزير ستالين للتجارة -أنستاسميكويان- بارعا في عقد الصفقات التجارية مع العديد من هؤلاء لمنح قروض للاتحاد السوفيتي لاستيراد الآلات من الولايات المتحدة والتي كانت تعاني الكساد المحلي والعالمي. وهكذا، حقق الاتحاد السوفيتي انجازاً اقتصادياً، وخاصة عسكرياً، هائلا، وان كان بتكلفة باهظة.
ولكن نجاح الاتحاد السوفيتي في بناء هذه القوة العسكرية والصناعية لم يرجع فقط الى صرامة النظام الحاكم وماأتبعه من قسوة في معاملة المواطنين، وانما رجع ذلك بدرجة أكبر نتيجة لما يتمتع به الاتحاد السوفيتي من موارد اقتصادية هائلة ومتنوعة، بالاضافة الى تقدم ملموس خاصة في العلوم الطبيعية. ويظل اعتبار وفرة الموارد الطبيعية وتنوعها لدى الاتحاد السوفيتي هو أحد أهم العناصر التي ساعدت على ظهور هذا القطب العالمي. ولم يكن غريبا، أن يتنبأ المفكر الفرنسي دي توكفيل، في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا في الثلث الاول من القرن التاسع عشر،بأن أهم دولتين في العالم ستكونان روسيا والولايات المتحدة، لما يتمتع به كلاهما من موارد طبيعية هائلة ومتنوعة بما لا يجاريها أي مكان آخر في العالم.
اقتصاد التقليديين والاقتصاد الكينزي
يرى الدكتور جلال أمين أن الوصفة الكينزيه قد قضت على الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات، وأن الحل الكينزي مازال الحل المناسب للحالة المصرية الأن. فهل هذا صحيح، وهل أوضاع الدول النامية مثل اوضاع الدول الغنية المتقدمة في تقبلها لوصفة كينز؟
الحقيقة أن النظرية الاقتصادية قد عرفت حقبتين، الأولى وتمثلها النظرية التقليدية لآدم سميث، وريكاردو، وجان باتيستساي، وهي تصلح بالدرجة الأولى لظروف الدول النامية، والتي تبدأ في دخول المجتمع الصناعي المتقدم،والحقبة الثانية ويمثلها كينز والتي تراعي بدرجة كبيرة ظروف الدول الصناعية المتقدمة والتي حققت معدلات مرتفعة من التقدم الاقتصادي، فالدول النامية ليست كالدول الصناعية المتقدمة وما يصلح لأحدهما لا يصلح بالضرورة للآخر.
الدول النامية عادة دول فقيرة نسبيا، وجهازها الانتاجي محدود وغير مرن، ومعدل دخل الفرد فيها منخفض. وبالتالي فان القدرة على الادخار تكون محدودة. وهكذا تحتاج هذه الدول الى استثمارات انتاجية كبيرة، في وقت تكون قدرتها على الادخار محدودة. ومتى توفر هذا الادخار واستخدم في استثمارات جديدة، فان الانتاج سوف يزيد، ومعه مزيد من العمالة وبالتالي ومزيد من الطلب ولا خوف من تصريف منتجات هذه الاستثمارات الجديدة. ولذلك، فإن الاقتصادي الفرنسي جان باتيستساي يقول إن االعرض يخلق الطلبب فالمشكلة لدى الدول الفقيرة هي مشكلة ضعف انتاجها، أما اذا تزايد الانتاج وما ترتب عليه من زيادة في العمالة، فإن الطلب سيكون متوافراً وجاهزاً.
وليس الأمر كذلك في الدول المتقدمة، حيث يتمتع الأفراد او عدد كبير منهم، بدخول كافية تزيد على حاجتهم للاستهلاك. فهذه الدول لا تعاني من نقص في المدخرات المحلية، بل ربما في زيادتها. والسؤال هو هل تستخدم هذه المدخرات بالضرورة من أجل الاستثمار أم الاكتناز؟ الاجابة تتوقف على مدى التفاؤل والتشاؤم بالنسبة للمستقبل. فاذا كانت الأجواء لا تدعو الى الاطمئنان، فان القادرين على الادخار يترددون في الاستثمار. وعلى العكس، فاذا كان المستقبل يدعو الى التفاؤل، فإنهم يقبلون على الاستثمار، وبما يزيد الدخل القومي. ولذلك قال كينز على عكس التقليديين- بأن الطلب يخلق العرض الكافي.
فالفارق في زيادة الانفاق بين الدول النامية والدول المتقدمة، هو أن الدول النامية لاتتمتع بطاقة انتاجية كافية ومرنة لمواجهة الطلب المتزايد فتكون النتيجة هي زيادة الأسعار والتضخم النقدي. أما الدول المتقدمة نظرا لأنها تتمتع بجهاز انتاجي مرن، فاذا زادت الدخول زاد معها الطلب، الأمر الذي سوف يؤدي الى مزيد من الانتاج من خلال استغلال الطاقة الانتاجية المتوافرة او مع زيادة الكفاءة الانتاجية. فعلى حين أن الجهاز الانتاجي في الدول النامية جامد وغير مرن، نجد أنه في الدول المتقدمة مرن وقادر على التوسع السريع لمقابلة الزيادة في الطلب. في الحالة الاولى تؤدي زيادة الطلب ـ عادة ـ الى ارتفاع الأسعار، وفي الحالة الثانية تؤدي هذه الزيادة ـ عادة ـ الى زيادة الانتاج.
واذا عدنا الى مثال انجلترا في فترة الثلاثينيات، فعلينا ان نتذكر أن انجلترا كانت تقريبا ـ أكبر دولة صناعية، وبالتالي كانت صناعاتها قادرة على الوفاء باحتياجات السوق مع زيادة الطلب. كذلك فان انجلترا كانت تتمتع في ذلك الوقت بأكبر مستعمرات في العالم، وبما يوفر لها المواد الأولية فضلا عن الاسواق لتصريف انتاج استثماراتها الجديدة. وأهم من هذا وذاك، فان الجنيه الاسترليني كان عمله التداول الدولي، وبحيث ان انجلترا كانت قادرة وبالاضافة الى موارد مستعمراتها وحصيلة صادراتها الصناعية على الشراء من أي مكان في العالم بالاسترليني.
الوضع في مصر
تواجه مصر صعوبات عديدة، من نقص في البنية الأساسية الى ضعف في الجهاز الانتاجي، فضلا عن بيروقراطية معرقلة وتزايد سكاني غير منضبط. ونظراً لأن مصر دولة فقيرة ومعدل دخل الفرد بها متواضع، فإن زيادة الدخول سوف تؤدي الى مزيد من الطلب على السلع الاستهلاكية، وليس بالضرورة لمزيد من الادخار من اجل الاستثمار. ونظرا لعدم مرونة الجهاز الانتاجي فإن هذه الزيادة فى الطلب لن تؤدي الى زيادة عرض السلع بقدر ما تؤدي الى ارتفاع الأسعار. ولا تتوقف صعوبات الوضع الاقتصادي على نقص معدلات الدخول، وبالتالي المدخرات المحلية، بل نظرا لأن مصر أقامت صناعاتها على أساس احلال الواردات بدلا من التصنيع من أجل التصدير، فإن هذه الصناعة المحلية تعتمد الى حد بعيد على استيراد العديد من المواد الأولية والوسيطة وقطع الغيار والآلات من الخارج. فزيادة الانتاج الصناعي تتطلب زيادة في الطلب على مدخلات الصناعة من الخارج.وهكذا يعاني ميزان المدفوعات في كثير من الدول النامية عجزا دائما. والعلاج يتطلب مزيدا من الادخارالمحلي، وتوجيه الصناعة الى التصدير لتوفير العملات الأجنبية اللازمة لضبط التوازن الخارجي. والمطلوب هو زيادة المدخرات المحلية وليس الانفاق الاستهلاكي.
* نقلاً عن " الأهرام "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة