لا تزال الطبقة السياسية تدير المؤامرات والتحالفات في الكواليس، دون أن تهتم بالأزمات التي تعصف بالبلد.
يتندر العراقيون بما يطلق عليه الكتلة الأكبر في نتائج الانتخابات، لأنها اللعبة التي استمرت من 2003 حتى الوقت الحاضر. وفي كل انتخابات، يعيد التاريخ نفسه، من الواضح أن مفهوم الكتلة الأكبر رسّخ لديكتاتورية الأحزاب الدينية التي تأتلف في اللحظة الأخيرة ناسية كل تناقضاتها، لأن المهم ألا تخسر السلطة، لذلك تأتي بأشكال وأثواب مختلفة في أربع سنوات ولكن بوجه آخر.
وهذا يعني أنه لا قيمة لمن يفوز في الانتخابات، مثلما حصل في عام 2010 عندما فاز أياد علاوي في الانتخابات ولكنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة، لأنه لم يتمكن من تشكيل الكتلة الأكبر في مجلس النواب. وعلى الرغم من مرور شهور طويلة على إعلان نتائج الانتخابات التي شابها الكثير من التلاعبات وعمليات التزييف، لا تزال القوى السياسية تتصارع من أجل تشكيل الكتلة الكبرى إلا أن الأحزاب السياسية الدينية تجد نفسها الآن أمام مأزق كبير، تواجه أزمات متراكمة لم يشهدها العراق من قبل، وهي نتيجة طبيعية لانعدام سياسة جادة في حل مشاكل العراقيين.
هناك دعوات من المحتجين إلى استبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي ينهي فساد الأحزاب الدينية، ويعطي الحلول اللازمة للازمات المتلاحقة، وهذا ما يهدد عروشهم ومصالحهم لأن بقاء النظام البرلماني بهذا الشكل يعني استمرار أزمات العراق إلى ما لا نهاية.
ولا تزال الطبقة السياسية تدير المؤامرات والتحالفات في الكواليس، دون أن تهتم بالأزمات التي تعصف بالبلد، لأن ما يهمها هو كيفية المحافظة على السلطة، حتى باللجوء إلى الميكيافيلية ــ الغاية تبرر الوسيلة ــ حيث لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة في السياسة، تولد عن ذلك أزمة الثقة بالنظام السياسي، ومقاطعة الانتخابات، ثم القيام باحتجاجات واسعة، من استمرار أزمة الكهرباء المتفاقمة، إلى أزمة عطش البصرة وانتشار التلوث وتصاعد الملوحة نتيجة قطع إيران المياه عن شط العرب، وإهمال الحكومات المتعاقبة قطاع المياه والخدمات. وكل هذه الأزمات أدت إلى تفاقم أزمة تشكيل الحكومة التي تزداد تعقيداً مع تصاعد الاحتراب بين المحورين المتنافسين على تشكيل الكتلة الأكبر التي سنأتي على شرحها.
هذا من حيث الأوضاع الداخلية، أما الأوضاع الخارجية والاقليمية، فهي الأسوأ، حيث تعمل إيران، اللاعب الأساسي في الأزمة العراقية، على توزيع الأدوار بين الكتل الشيعية التي ستهيمن على المشهد السياسي.
كما تعمل كل من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما من البلدان الإقليمية في رعايتها للأكراد أو التركمان وغيرهم. وقد وصل بإيران وتركيا إلى استخدام شريان الحياة الماء من أجل إذلال الشعب العراقي. كل ذلك في ظل القمع المنظم لأي احتجاجات شعبية كما هو الحال في البصرة مؤخراً، حيث تم استخدام الرصاص الحي، وقتل عشرات الشبان دون أي وازع إنساني أو أخلاقي.
وما يزيد الأزمة أن النظام السائد عمل على تحطيم كل نفس لوجود المجتمع المدني بنقاباته ومنظماته، حتى إن وجدت فهي شكلية لا سلطة لها.
إن مقومات الدولة في العراق الحاضر يفتقر لأبسط الشروط، لا سيادة على الأرض والمياه والمجال الجوي ولا خدمات ولا بناء جيش وطني قادر على الدفاع عن الوطن، بينما وهي تُغلّب مصالح إيران على المصالح العراقية. وهذه نتيجة منطقية لسلطة المحاصصة الطائفية التي انتهجها النظام منذ 2003 الذي تقوم فيه الأحزاب والمنظمات السياسية إلى تقوية أذرعها العسكرية أي المليشيات حتى فاقت المئة في بغداد لوحدها، حسب اعتراف حيدر العبادي، رئيس الوزراء، الذي يتظاهر بمحاربة الفساد، دون أن يعمل شيئاً ملموساً عبر سنوات حكمه، لأنه محكوم بتوجهات حزب الدعوة الذي ينتمي إليه.
تسعى الأحزاب الإسلامية الشيعية إلى بناء نظام سياسي على غرار النظام الإيراني، التي تطبق أجنداته بكل وفاء وإخلاص حتى إن أحد قادة هذه الأحزاب سُئل عن موقفه لو قامت حرب بين العراق وايران، فأين سيقف فأجاب بصريح العبارة: إنه يقف مع إيران لأنه مؤمن بالمرجعية العالمية والكونية!
وينطبق المر ذاته على الأحزاب والمنظمات السنيّة في تحالفاتها الحالية مع القوى الشيعية من أجل غاياتها السياسية. ولم يتخلف الأكراد في سلوك الطريق ذاته، لإضعاف سلطة المركز، وعقد تحالفات القوى الساسية التي تضمن مصالحها.
يبدو أن الأكراد يشكلون بيضة القبّان في حسم الكتلة الكبرى التي ستكلّف بتشكيل الحكومة العراقية المقبلة. وتخضع كركوك إلى المساومات والمفاوضات الجارية لتشكيل الكتلة الأكبر، لكن بغداد ترفض أي نقاش في مطالبة الأكراد بإعادة قوات البيشمركة والأسايش ــ المخابرات ــ إلى المدينة، وتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي. كما يرفض المجلس العربي في كركوك الأمر ذاته.
وهكذا تمكن تحالف "سائرون" و"النصر" أن يجمع حوله نحو 15 مكوناً عراقياً وأغلبهم من الأقليات، وبذلك يتفوق على التحالف المنافس "كتلتي "الفتح" و"دولة القانون"، الذي أعلن هو الآخر عن تحالف الكتلة الأكبر من خلال جمع تواقيع 145 نائباً يمثلون تحالف الفتح وائتلاف دولة القانون والمنشقين من ائتلاف النصر وتحالف القرار والجماهير وائتلاف الوطنية والأنبار هويتنا وصلاح الدين هويتنا وحركة إرادة وكتلة بابلون، وهي أقل بـ35 نائباً عن التحالف المنافس. فالعملية السياسية الحالية ما هي إلا إعادة تدوير للوجوه نفسها بطريقة أو بأخرى.
ويقع ذلك ضمن الأساليب الابتكارية التي يمارسها قادة الأحزاب الدينية من أجل بقائهم في السلطة سواء تعلق الأمر بمقتدى الصدر أو عمّار الحكيم أو هادي العامري أو الآخرين الذين يسعون إلى تمويل أحزابهم وكتلهم.
وفي هذا السياق، يقوم ائتلاف "سائرون" و"النصر" و"تيار الحكمة" و"ائتلاف الوطنية" بصياغة السيناريو ذاته في مفهوم الكتلة الأكبر التي ستشكل الغالبية في مجلس النواب رغم التناقضات والخلافات بينها، لأنها تخشى خطر التفكك والانقسام.
إن نواة التحالف هي التي ستقود العملية السياسية للسنوات الأربع المقبلة، ولكنها ستدور في الفلك ذاته ما دامت قائمة على المحاصصة الطائفية.
ويتجسد الصراع الحالي على السلطة بين جبهتين قويتين، تحالف "سائرون" و"النصر" من جهة، وتحالف "دولة القانون" و"الفتح" من جهة أخرى، ويخفي ذلك في طياته صراعاً إقليمياً حاداً. من ناحية أخرى، كل تحالف إلى استمالة الحزبين الكرديين الرئيسيين لتشكيل الكتلة الأكبر.
هكذا يئن الشعب العراقي بكل أزماته واختناقاته تحت ظل هذين التحالفين الكبيرين في سباقهما المحموم في موالاتهم ايران، وتنفيذ أجنداتها على الأرض العراقية رغم تصريحات بعضها أنها تتمتع باستقلالية تامة. ويعمل التحالفان على إيهام مَنْ انتخبوهم بأنه الأكثر قدرة على النهوض بواقع العراق، ومحاسبة الفاسدين وتقديم الخدمات الضرورية.
إن أهم ما يواجه تشكيل الحكومة الحالية هو حالة المحاصصة المبنية على التوزيع الطائفي والقومي والحزبي الذي أثبت فشله، ولكن الكتل السياسية مصرّة على نهج الطريق ذاته، بالاستناد إلى الدستور الملغوم. لذلك هناك دعوات من المحتجين إلى استبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي ينهي فساد الأحزاب الدينية، ويعطي الحلول اللازمة للأزمات المتلاحقة، وهذا ما يهدد عروشهم ومصالحهم، لأن بقاء النظام البرلماني بهذا الشكل يعني استمرار أزمات العراق إلى ما لا نهاية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة