فرنسا تنقّب عن «حفريات» الفكر الإخواني.. مواجهة جذرية في الأفق

اتخذت التحركات الفرنسية لمواجهة خطاب الكراهية الإخواني نمطا أكثر جذرية، حيث تنقب السلطات عن حفريات تكشف نمط تجذرها في المجتمع.
وفي قلب المشهد الديني الفرنسي، تكشف تحريات دقيقة عن هيكل شبكي عميق تديره حركة "مسلمو فرنسا"، وعبر تتبع مسارها تأمل السلطات تفكيك خطاب تقول إنه "يمثل تهديدا مباشرا لعلمانية الدولة".
ويرصد تقريرٌ رسمي أصدره جهاز الاستخبارات الفرنسية، مكوَّن من 76 صفحة، واطلعت "العين الإخبارية" على نسخةٍ منه، تطوّرَ هذه الحركة، وآلياتها التمويلية، وأذرعها الشبابية والتعليمية، والتهديدَ الذي تُمثّله لتوازن الدولة.
شريان مالي للإخوان
بنك "KT الإسلامي" ليس مجرّد تجربة مالية، بل تحوّل إلى حجرِ زاويةٍ في تمويل الجمعيات التابعة لحركة "المسلمون في فرنسا"، الجناح المؤسسي للإخوان.
وتزامن ظهور البنك مع صعود الحركة في العقد الأول من الألفية الجديدة، ليُشكّل مع مدارسها وجمعياتها شبكةً متكاملةً تُعنى بنشر الفكر الإخواني ضمن إطارٍ قانونيٍّ فرنسي.
بنية مؤسساتية
ومنذ السبعينيات، بدأت جماعات طلابية مرتبطة بالإخوان في الظهور، مثل جمعية "الطلاب المسلمين في فرنسا" (AEIF) بقيادة أحمد محمود.
وبرزت حينها شخصيات محورية، مثل أحمد جبالة وفيصل مولوي، اللذين عمّقا الفكر الإخواني داخل الأوساط الشبابية، وبتأسيس "التجمع الإسلامي في فرنسا" بدأت أولى الخطوات لبناء هياكلَ متماسكةٍ تحت غطاء الجمعيات.
وفي الثمانينيات، بدأت الحركة بإضفاء طابع قانوني على نشاطها، لكنها في الواقع حافظت على بنية مزدوجة تُخفي مجلسًا إداريًا إسلاميًا داخليًا بعيدًا عن أعين السلطات، بقيادة جبالة وعبدالله بن منصور. كما وظّفت رمزيةَ قضية الحجاب في مدرسة كريل عام 1989 لتعزيز موقفها.
تكيّف ظرفي
وخلال تسعينيات الإرهاب، سعت الحركة لإعادة التموضع كحائط صد ضد التطرف، مقدّمة نفسها كصوت إسلامي معتدل.
وفي عام 1993، ادعت "انفصالاً" عن الجماعة الأم، لتتحول إلى شريك في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM)، مما منحها شرعية رسمية.
ووفقا لتقرير الاستخبارات أسست الحركة مدارس خاصة، مثل مدرسة "عمار لأسفار" في ليل (2003) ومدرسة "ابن خلدون" في مرسيليا (2004).
وفي انتخابات المجلس الإسلامي عام 2003، فازت الحركة بـ10 من أصل 22 منطقة انتخابية، وهو ما عُدّ مكسبًا استراتيجيًا رغم التراجع الظاهري لبعض رموزها.
الانكماش التكتيكي
وفي ظل تصاعد الرقابة القانونية، قررت الحركة تغيير اسمها في عام 2017 إلى "مسلمو فرنسا"، وأضافت إليه في 2021 وصفًا مشتركًا مع أربع اتحادات تابعة للمجلس الفرنسي، محاولةً تجنب الحظر الإداري المحتمل.
وبموجب قانون صدر في 24 أغسطس/آب 2021، ادعت الانسحاب من الأنشطة غير الدينية. لكن هذا التحول، كما تشير اعترافات داخلية، لم يكن إلا شكليًا، في ظل غياب القدرة على إنشاء هياكل إدارية منفصلة للأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية.
نفوذ بالمؤسسات والمساجد
ورغم الانتقادات، لا تزال "المسلمون في فرنسا" حاضرة في البنية المؤسسية للديانة الإسلامية، وتحتفظ بعلاقات قوية مع المسجد الكبير في باريس، إضافة إلى اندماجها المحلي في نحو خمسة عشر مسجدًا، ومشاركتها المحدودة في الحوارات الرسمية تجنبًا لمنحها شرعية مطلقة.
خطاب مزدوج
وفي الظاهر، تقدم الحركة خطابًا معتدلاً، يحترم القانون، ويتجنب الفتاوى المثيرة للجدل. إلا أنها تروّج لـ"فقه الأقليات"، الذي يُجيز "الزواج الديني فوق المدني"، والإفطار لأسباب دراسية، وهو خطاب يتردد في أوساطها منذ عقود، مع تأثيرات واضحة من رموز مثل طارق رمضان (حفيد مرشد الإخوان حسن البنا المدان في قضية اغتصاب)، الذي دعا إلى احترام الهوية الإسلامية ضمن المواطنة الأوروبية، رافضًا مصطلح "الأقلية".
وقضت محكمة سويسرية العام الماضي بسجن طارق رمضان، وهو أكاديمي من أصول مصرية ذائع الصيت في أوساط الإسلامويين في أوروبا، 3 سنوات بعدما دانته بـ"الاغتصاب".
أدوات ناعمة للتأثير
ومنذ تأسيس "الطلاب المسلمون في فرنسا" عام 1997، و"الشباب المسلم في فرنسا" عام 1993، ركزت حركة "المسلمون في فرنسا" على تجنيد النخب الشابة في المدن الجامعية.
كما تمددت إلى قطاع الكشافة الإسلامية، خاصة في الشمال الفرنسي، واستثمرت في التعليم عبر مدارس "كـشاتو-شينون"، لتزرع أطرًا فكرية على المدى البعيد.
تصدير نظرية الضحية
وعبر الترويج لقضايا مثل الإسلاموفوبيا، والدفاع عن الأويغور، والروهينغا، والقضية الفلسطينية، نجحت الحركة في "ربط مسلمي فرنسا بأمة إسلامية عالمية، تُغذي فيها شعورًا دائمًا بالاضطهاد، ما يعزز مناعتها الجماهيرية".
ورغم الالتزام الظاهري بالقانون، تُظهر حركة "المسلمون في فرنسا" قدرة عالية على التكيّف والمناورة ضمن السياق الجمهوري الفرنسي، بينما تحتفظ بهويتها الفكرية الإخوانية.
التمويلات، المدارس، الجمعيات الطلابية، والمساجد، كلها تمثل خيوطًا في شبكة متشابكة تُدار بسلطة فوقية خفية، وتسعى لترسيخ نفوذ طويل الأمد داخل مجتمع علماني بات يُدرك حجم هذا التحدي.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTEyIA== جزيرة ام اند امز