اعتراف فرنسي مرتقب بفلسطين.. تحول استراتيجي أم لعبة تحالفات؟

تتهيأ باريس لإعلان قد يدوي صداه خارج حدودها بكثير، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اعتاد السير على خيط التوازنات الدقيقة، يضع اليوم بلاده على أعتاب لحظة مفصلية تتمثل في اعتراف مرتقب بدولة فلسطين في يونيو/حزيران المقبل.
لم يكن هذا التحرك وليد اللحظة، بل ثمرة تراكمات سياسية وضغوط دولية تتقاطع مع موجات غضب شعبية، وأخرى دبلوماسية تطبخ خلف الكواليس.
وبينما يرى خبراء في القرار تحولًا استراتيجيًا يحمل بين طياته بوادر إعادة تشكيل الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، فيما يقرأه آخرون كتحرك محسوب في لعبة تحالفات معقدة، يسعى من خلالها ماكرون لتحقيق توازن دقيق بين الضغوط الدولية والتحديات السياسية في الداخل.
وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأربعاء أن فرنسا قد تعترف بدولة فلسطينية "في يونيو/حزيران" المقبل، وذلك خلال مؤتمر ستترأسه بالاشتراك مع المملكة العربية السعودية.
وجاء ذلك غداة انتهاء زيارة للقاهرة شملت زيارة لمدينة العريش أكد خلالها أهمية استئناف إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة في أقرب وقت والمٌضي قدمًا نحو حلول سلمية للوصول إلى تسوية سياسية شاملة.
تحول بالسياسات
وتعقيبا على ذلك، قال الباحث السياسي الفرنسي في معهد "توماس مور " للدراسات السياسية، والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، جون سيلفستر مونجريني، في تصريحات لـ"العين الإخبارية" أن هذه الخطوة تعكس تحولاً في السياسة الخارجية الفرنسية نحو لعب دور أكثر نشاطًا في الشرق الأوسط.
مونجريني يرى أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية قد يمنح فرنسا نفوذاً أكبر في المفاوضات المستقبلية، لكنه يحذر من أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى توترات مع إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة إذا لم تكن جزءًا من مبادرة سلام أوسع.
بدوره، أعرب جاستن فايس، المدير العام لمنتدى باريس للسلام والمدير السابق للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية الفرنسية، عن قلقه في تصريحات لـ"العين الإخبارية" من أن الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية قد يُفسر على أنه انحياز ويؤثر سلبًا على العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية.
وأكد ضرورة أن تكون مثل هذه الخطوة جزءًا من جهد دبلوماسي شامل يهدف إلى تحقيق حل الدولتين، محذرًا من أن التحرك المنفرد قد يقلل من تأثير فرنسا في العملية السلمية.
التداعيات المحتملة
كما حذر فايس من تأثير الخطوة داخليًا، وقال إن "ماكرون قد يواجه انتقادات من الأحزاب السياسية التي تعتبر هذه الخطوة سابقة لأوانها أو غير متوازنة".
وأضاف :" خارجيًا، قد تؤثر هذه الخطوة على علاقات فرنسا مع إسرائيل والولايات المتحدة، لكنها قد تعزز في الوقت نفسه علاقاتها مع الدول العربية وتؤكد التزامها بحل عادل للقضية الفلسطينية".
فيما اتفق الخبراء على أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يحمل دلالات مهمة، لكن نجاحه يعتمد على كيفية تنفيذه وتكامله مع الجهود الدبلوماسية الأوسع لتحقيق السلام في المنطقة.
ردود فعل داخلية
وتباينت ردود فعل الطبقة السياسية الفرنسية إزاء إعلان الرئيس ماكرون، حيث اعتبر حزب "التجمع الوطني" (أقصى اليمين) القرار "متسرعاً"، بينما رحب به كل من الوسط واليسار.
وصرح الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند على إذاعة "إر.تي .إل" قائلاً: "إذا جاء هذا الاعتراف ضمن إطار يسمح لدول لا تعترف بإسرائيل أن تفعل ذلك، ودول أخرى لا تعترف بفلسطين أو بالدولة الفلسطينية أن تقوم بذلك، فهذا مسار جيد".
لكنه أشار إلى أن هذا الاعتراف "تصريحي فقط"، مضيفاً: "ما يهم فعلاً هو أن تقوم دولة فلسطينية في يوم ما، لكن دون وجود حركة حماس فيها، وأن تكون غزة منطقة يمكن للغزيين أن يعيشوا فيها ببساطة".
من جهتها، قالت رئيسة كتلة "فرنسا الأبية" في البرلمان، ماتيلد بانو، قائلة: "أخيراً، بعد ما يقارب عامين من الإبادة في غزة، تفكر فرنسا أخيراً في الاعتراف بدولة فلسطين"، مشيرة إلى أن "147 دولة قامت بذلك بالفعل"، وطالبت بتحويل هذا "الإجراء، الذي انتُزع بعد نضال مرير، إلى فعل ملموس".
بدوره، وصف رئيس الكتلة البرلمانية لحزب "مودم"، مارك فيزنو، الاعتراف بأنه "فكرة جيدة"، لكنه شدد على ضرورة وجود "شرط المعاملة بالمثل".
وأضاف عبر قناة "تي .إف.1: "يجب على الطرفين أن يعترفا ببعضهما البعض: الفلسطينيون لهم الحق في دولة، والإسرائيليون لهم الحق في دولة، وكلاهما لهما الحق في العيش بأمان في نظام ديمقراطي".
كما أعرب عن قلقه من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرغب في "إلغاء فكرة أن للفلسطينيين الحق في دولة، حتى وإن أدى ذلك إلى احتلال كامل للأراضي".
على الجانب الآخر، اعتبر نائب رئيس حزب "التجمع الوطني" (أقصى اليسار)، سيباستيان شينو، عبر قناة "إل.سي.إي" الفرنسية، أن أي اعتراف حالي سيكون "متسرعاً".
وأضاف أن حزبه "يؤيد حل الدولتين"، لكن "الدولة الفلسطينية حالياً مدعومة من حماس". وقال إن هذا الاعتراف يرسل رسالة مفادها: "مارسوا الإرهاب وسنعترف لكم بالحقوق"، معتبراً أن الرئيس الفرنسي "يضع العربة أمام الحصان، ربما لأسباب داخلية، ولإرسال إشارات سياسية معينة".
وقد أعلن ماكرون أن فرنسا قد تعترف بدولة فلسطينية في يونيو/حزيران، في مؤتمر ستترأسه مع السعودية في الأمم المتحدة بنيويورك، والذي يفترض أن يؤدي أيضاً، حسب رأيه، إلى اعتراف عدد من الدول بإسرائيل.
ويهدف المؤتمر إلى إنشاء دولة فلسطينية. وقد تصاعدت الدعوات لحل "الدولتين" – إسرائيلية وفلسطينية – منذ بدء الحرب على غزة التي اندلعت بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وقال ماكرون في مقابلة مع برنامج "C à vous" على قناة "فرانس 5"، الأربعاء: "علينا المضي نحو الاعتراف (بدولة فلسطين) وسنفعل ذلك خلال الأشهر القادمة.
وفي مايو/أيار 2024، قامت كل من إيرلندا والنرويج وإسبانيا بهذه الخطوة، تلتها سلوفينيا ثم أرمينيا في يونيو/حزيران ما يرفع عدد الدول إلى 148 من أصل 193 دولة بالجمعية العامة للأمم المتحدة.