فرنسا في عزلة أوروبية.. نموذجها الاقتصادي والسياسي يبعد الشركاء

في الوقت الذي تبدو فيه الظروف مواتية لتتولى فرنسا دور القيادة داخل الاتحاد الأوروبي، تتزايد مؤشرات العزلة السياسية وتراجع الثقة الأوروبية في باريس.
الخلافات العميقة حول السياسات النووية، والموقف من التبعية الأمريكية، والنموذج الاقتصادي الفرنسي، باتت تُبعد الشركاء الأوروبيين خطوة بعد أخرى عن باريس، رغم مركزيتها التاريخية داخل الاتحاد.
فرنسا، التي لطالما حذرت من الاعتماد الأوروبي المفرط على الولايات المتحدة، تجد نفسها اليوم في موقع مثالي لإعادة رسم دورها الجيوسياسي، خاصةبعد انتخاب دونالد ترامب مجددا، وهو ما أحيا رؤية شارل ديجول بتحرير أوروبا من "الوصاية الأمريكية".
غير أن سلوك فرنسا السياسي، وتشبثها بالنموذج المركزي السيادي، يقابل بتوجس من العواصم الأوروبية الأخرى، التي باتت تميل إلى نماذج أكثر مرونة وشمولية في صنع القرار.
ووفقا لخبير السياسة الإيرلندي إوين دريا، الذي يتابع عن كثب أروقة قوة صنع القرار في بروكسل، تظل باريس تكرس المركزية وحدها رغم الفرص التاريخية لإعادة رسم دورها داخل الاتحاد، لكن عوائق تتعلق باسلوبها السياسي وتقييماتها الاقتصادية تُعيق هذا التماسك، بحسب صحيفة "ليزيكو" الاقتصادية الفرنسية.
وتأتي لحظة فرنسا المنتظرة للتألق في بروكسل وسط ظروف دولية متغيرة قد يسمح لها بتموضع مجدد كفاعل عالمي مؤثر داخل الاتحاد الأوروبي. لقد دأبت باريس على التحذير منذ عقود من مخاطر الاعتماد الزائد على الولايات المتحدة - التي يرى البعض أنها أفقدت أوروبا قوتها واستقلالها منذ بداية الحرب الباردة.
وعلى خلفية التداعيات المباشرة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، والعجز الأوروبي في الاستعداد العسكري الموحد، عززت فرنسا موقعها كمصدر للنفوذ السياسي والدفاعي في بروكسل. فهي الدولة الوحيدة في القارة التي تمتلك قوة نووية تعتمد على إنتاج محلي، مما يؤهلها لتكون قلب "الاتحاد الأوروبي للطاقة".
فبينما قررت ألمانيا تقليص قدراتها النووية تحت تأثير الاعتبارات البيئية، حافظت فرنسا على قوتها النووية، مما يبدو اليوم قرارا استراتيجيا صائبا.
وفي الوقت الذي تعجل فيه برلين بزيادة إنفاقها العسكري، تدرس فرنسا بذكاء أول تسوية استراتيجية فرنسية-ألمانية منذ إرساء العملة الموحدة، يرتقب أن تكون مزيجا بين "قوة نووية" وفرص مالية لصالح أوروبا، ما قد يتيح استخدام "مظلتها النووية" لحماية شركائها داخل الحلف دون الإخلال بسيادتها.
ومن وجهة نظر محلل السياسة الأوروبية إوين دريا، تفتقد أوروبا اليوم إلى قيادة واضحة تستند إليها معركتها الاستراتيجية. فرغم التحذيرات المبكرة التي أطلقتها باريس بشأن اعتماد القارة على واشنطن، فإن بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باتت تفكر بمنطق اقتصادي وتنافسية، بعيدا عن النزعة الدبلوماسية الفرنسية التقليدية.
ويرجع دريا هذا التحول إلى عدم الثقة المتزايدة في نموذج فرنسا التقليدي، الذي تركز على البنية التحتية النووية والتدخل الاستراتيجي لكنها تغض الطرف عن الابتكار الاقتصادي واستدامة السياسات المالية، فضلا عما يصفه بغرور سياسي يجعل أوروبا تميل إلى التوجه نحو مراكز أكثر مرونة وديمقراطية.
ويؤكد دريا أن النموذج الفرنسي في استخدام الطاقة النووية والعسكرية كان يمكن أن يمنح أوروبا استقلالا فعليا لو أرفق بإطار تعاون مشترك مع الحلفاء الأوروبيين.
إلا أن فرنسا رفضت المشاركة في مجموعة التخطيط النووي لحلف الناتو، ورفضت مشاركة السيطرة على أسلحتها النووية حتى في حال التشاركية في التمويل. ومن ثم فقد ظلت تتمسك بسيادتها لكنها تفتقر إلى المصداقية والديناميكية الحقيقية لتعزيز الردع الجماعي داخل الاتحاد الأوروبي.
ويرى دريا أن الطبيعة جيوسياسية أوروبا اليوم تتطلب تجاوز الخلافات التاريخية والبدء في شراكة أوروبية فعلية تجعل من فرنسا والملكة المتحدة قاعدة ردع نووية متقدمة.
ويتوقع أن يفتح مستقبل التعاون الدفاعي، بما في ذلك آليات تمويل مشتركة وتنسيق تقني، الباب أمام اعتماد سياسي يعزز مصداقية الردع الجماعي. الخطر الحقيقي، بحسبه، أن تستمر فرنسا في ادعاء القيادة بينما تغرق مصالح دول شرق أوروبا وشعوبها في الشعور بالتهديد وغياب الثقة في باريس.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuOTAg جزيرة ام اند امز