فرنسا بلد يمتلك أكبر شبكة مدرسية خارج حدوده بحوالي 500 ثانوية في 137 بلداً، لمواكبة التنقل المتنامي للعائلات الفرنسية في الخارج.
منذ عام 1993، يجتمع سنوياً في باريس نهاية أغسطس جميع رؤساء البعثات الدبلوماسية الفرنسية، وهي فرصة لرئيس الجمهورية ووزير خارجيته لإعطاء المبادئ التوجيهية السنوية التي ستأطر عمل ممثلي فرنسا في الدول الأجنبية وداخل المنظمات الدولية، وهي فرصة أخرى للرئيس لإيضاح خطوط فرنسا الجيوستراتيجية العامة.
هل تستطيع خريطة طريق دبلوماسية ماكرون أن تصمد أمام ضعف أوروبا في إدارتها ملفها الأمني وأزمتها الاقتصادية الخانقة وتنامي الأحزاب الشعبوية والعنصرية أمام إعلان حرب ترامب ضد الصين وروسيا وإيران من أجل تحقيق مصلحة أمريكا وحدها؟
فرنسا هي البلد الذي يمتلك أكبر شبكة مدرسية خارج حدوده بحوالي 500 ثانوية في 137 بلداً، لمواكبة التنقل المتنامي للعائلات الفرنسية في الخارج، وكأداة تأثير بفضل استقبال تلاميذ من جنسيات أجنبية (حوالي 60%) لتعزيز الفرانكفونية والحضور الثقافي الفرنسي وتأثيره في العالم، ولنشر القيم الإنسانية العالمية التي تشكل أساس النموذج الجمهوري الفرنسي.
وقد أعلن ماكرون، في كلمة ألقاها أمام 250 سفيراً، أنه سيكون هناك إصلاح لتدريس اللغة الفرنسية في الخارج، على ضوء المقترح الذي قدمته حكومته في الخريف الماضي.
وأمام الأزمات الاقتصادية التي يمر منها العالم أشار ماكرون إلى الأخذ في الاعتبار على سبيل المثال الأزمة السياسية والاقتصادية الخطيرة في فنزويلا، ليدعو البعثات الفرنسية في الخارج إلى التعبئة لصالح الدبلوماسية الاقتصادية للحد من العجز التجاري لبلاده.
وقد سبق لوزارة الخارجية الفرنسية أن أنشأت، في 1 مارس 2013، إدارة جديدة للأعمال والاقتصاد الدولي كنقطة دخول بالنسبة للشركات والمجموعات الكبيرة والشركات الصغيرة والمتوسطة، ومراعاة مصالحها في المفاوضات التي يحتمل أن يكون لها تأثير على أنشطتها الاستثمارية، لا سيما في المسائل المتعلقة بالتنظيم الاقتصادي الدولي.
ولا تقتصر «دبلوماسية النفوذ» الفرنسي هذه على الجهات الاقتصادية الفاعلة فقط، لأنها تحشد أيضاً الخدمات العلمية والتقنية والثقافية، والإدارات المسؤولة عن سياسات التنمية.
وفيما يتعلق بقارة أفريقيا، شدد ماكرون على أهمية القارة بالنسبة لفرنسا كحليف استراتيجي «لاختراع موازين الغد العظيمة»، حيث قال «إن أفريقيا حليفنا في اختراع عالم الغد»، وأضاف: «إننا لن نفوز أبداً بتحدياتنا دون أفريقيا».
وفي هذا السياق، شدد على الأهمية الاستراتيجية والثنائية المتعددة الأطراف لعلاقة فرنسا مع أفريقيا، داعياً الدبلوماسيين الفرنسيين إلى تكريس كل طاقاتهم لها، بما في ذلك أولئك الذين ليسوا في أفريقيا، لأن الحاجة ملحة لإعادة بناء تحالفات جديدة وإلى بناء شراكة مسؤولة جديدة بين فرنسا وأفريقيا. كما قال: «هذا أحد مفاتيح إعادة التوازن في علاقتنا مع أفريقيا». هذه الشراكة التي تجسدت في محاربة الإرهاب بمنطقة الساحل، حيث أكد ماكرون «أهمية مواصلة التفكير في منطقة الساحل في المجالات الثلاث (الدبلوماسية والتنمية والدفاع) وتعزيز العمل التنموي لتحالف الساحل».
لكن الحرب العسكرية على الإرهاب في منطقة الساحل يجب أن تكون مصحوبة بالتنمية المستدامة في المنطقة وإيجاد فرص عمل لمواطنيها، من خلال تشجيع الاستثمارات وتقديم المساعدات الإنمائية ورفعها لتحول دون الجماعات المقاتلة والإغراءات المالية التي تقدمها لها الدول الراعية للإرهاب.
وصرح الرئيس ماكرون في خطابه بأن ميزانية عام 2019 ستشمل مليار يورو على شكل «التزامات إضافية»، بغرض إعطاء «طموح جديد» للمساعدة التي تقدمها فرنسا للدول النامية، وجعل هذه المساعدات «سياسة استثمارية حقيقية للتضامن»، واعداً في هذا الخصوص بـ«بإشراك المجتمع المدني والشباب والشركات والمغتربين بشكل أفضل».
وأمام استفحال ظاهرتي التطرف الديني والعنصرية، أكد ماكرون قوة التعددية الثقافية ومنظومة حقوق الإنسان في مواجهة تيارات الكراهية، وضرورة إعادة النظر في بنية الدفاع والأمن الأوروبية، لتحمل المسؤولية وضمان الأمن، ومن ثم السيادة الأوروبية دون اللجوء دائماً إلى الولايات المتحدة الأمريكية في محاربة الإرهاب.
الغائب الكبير في خطاب ماكرون هو الملف الفلسطيني الإسرائيلي، للعام الثاني على التوالي، إذ يمتنع الرئيس الفرنسي عن الخوض فيه، على الرغم من أنه استقبل أكثر من مرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قصر الأليزيه. وما هو معروف أن باريس «نصحت» الفلسطينيين بألا ينقطعوا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وأن «ينتظروا» أن تكشف إدارة الرئيس ترامب عن «خطتها» المرتقبة. وكانت باريس انتقدت بقوة قرار واشنطن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتها إليها.
فهل تستطيع خريطة طريق دبلوماسية ماكرون أن تصمد أمام ضعف أوروبا في إدارتها ملفها الأمني وأزمتها الاقتصادية الخانقة وتنامي الأحزاب الشعبوية والعنصرية أمام إعلان حرب ترامب ضد الصين وروسيا وإيران من أجل تحقيق مصلحة أمريكا وحدها؟
وهل سينجح ماكرون في فرص «ميثاق عالمي جديد للبيئة» والدفاع عن اتفاقية المناخ في باريس أمام لوبيات الصناعة الثقيلة والنووية أم ندع سياسة ماكرون لمقولة «عليك إعطاء الوقت للوقت»؟ ونعلم أن هذه المقولة القديمة لحكمة الفلاحين كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران قد أخذ قبل انتخابه بوقت قصير، حيث قال في «لو نوفيل أوبسرفاتور» (28-04-1981): «الأفكار تنضج مثل الثمار والرجال.. يجب أن يسمح بالوقت للوقت».
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة