ماكرون يختبر الأزمة.. خيارات ضيقة وعقبات جمة والأسوأ لم يأت بعد
مسار صعب يشبه السير على الأشواك تقطعه فرنسا من محطة الفوضى نحو الاستقرار، وسط خيارات ضيقة للغاية، وسيناريو "هو الأسوأ" ينتظر بالخلفية.
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إجراء انتخابات مبكرة في الصيف الماضي، للحصول على ما قال إنه ”توضيح“ من الناخبين حول القيادة والتوجه الذي يريدونه للبلاد.
وقد قدم الناخبون توضيحا بخسارة موجعة لحزبه وبرلمان معلق تمرد بعد ثلاثة أشهر فقط، وأطاح برئيس الوزراء الذي اختاره الرئيس، ميشيل بارنييه، بسبب ميزانية خفض العجز.
لا يوجد الآن سوى القليل من الحلول السهلة أمام ماكرون في الوقت الذي يبحث فيه عن مخرج من الفوضى التي يقول خصومه (وحتى بعض حلفائه) إنها من صنعه، وفق صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
واعترف فرانسوا باتريات، عضو مجلس الشيوخ الذي لطالما دعم ماكرون، بأنه ”من الصعب إيجاد طريق للاستقرار“ في ظل الأزمة الحالية.
ومع تجريد حزبه من أغلبيته البرلمانية، تم تهميش ماكرون في الشؤون الداخلية خلال فترة ولاية بارنييه القصيرة، لكن سقوط رئيس الوزراء أعاد الرئيس إلى مقعد القيادة مؤقتًا.
ويتعين على ماكرون الآن اختيار رئيس وزراء جديد، والذي يأمل أن يتمكن من الاستمرار لفترة أطول من بارنييه، على الرغم من أنه يواجه نفس المعادلة البرلمانية الصعبة، حيث تتنافس ثلاث كتل لا يتمتع أي منها بالأغلبية، على السيطرة.
ويلوح في الأفق أيضًا الموعد النهائي لتمرير ميزانية العام المقبل، مما يضع ضغوطًا على ماكرون للتحرك بسرعة، على الرغم من إمكانية سن تدابير مؤقتة لتجنب الإغلاق على غرار الولايات المتحدة.
خيارات ضيقة
وفي حين استغرق الرئيس شهرين لترشيح بارنييه، سيتعين على ماكرون إيجاد بديل بسرعة أكبر هذه المرة. إن أي تأخير قد يجعله يبدو ضعيفًا بينما يزيد من قلق الأسواق المالية، فقد ارتفعت تكاليف الاقتراض الفرنسية الأسبوع الماضي بسبب المخاوف من فشل مناورة بارنييه بشأن الميزانية.
كما يمكن أن يؤدي الجمود المطول إلى زيادة قرع طبول المطالبات بتنحي ماكرون والدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية ولايته في عام 2027.
ومن المقرر أن يلقي الرئيس خطابًا إلى الأمة مساء الخميس، لشرح الطريق إلى الأمام. وقد بدأ بالفعل في استكشاف المرشحين المحتملين لمنصب رئيس الوزراء، ويقال إنه يريد ترشيح شخص ما في الأيام المقبلة.
ومن بين الأسماء المتداولة في وسائل الإعلام الفرنسية سيباستيان ليكورنو الموالي للرئيس، ووزير الدفاع فرانسوا بايرو، وهو حليف آخر ووسطي مخضرم، وبرنار كازنوف، رئيس الوزراء الاشتراكي السابق.
ومن المحتمل أيضًا تشكيل حكومة تكنوقراطية يديرها موظف مدني أو شخصية غير سياسية، وفق فايننشال تايمز.
ووفق الصحيفة، فإن ما يعد على المحك بالنسبة لماكرون، هو إنقاذ ما تبقى من ولايته الثانية مع حماية ما تبقى من إرثه، خاصة في مجال الاقتصاد، حيث قام بإصلاحات صديقة للأعمال وتخفيضات ضريبية.
لكن قدرة الرئيس على فرض إصلاحات قوضها انكماش حزب النهضة الوسطي الذي ينتمي إليه في أعقاب الانتخابات المبكرة التي جرت في يوليو/تموز، حيث لم يعد نوابه الباقون قادرين على إملاء شروطهم على الشركاء المحتملين.
عقبات
ومع قلة تقاليد بناء الائتلافات في فرنسا، فقد اقتصر ماكرون بدلاً من ذلك على حث الأحزاب السياسية المتنافسة على العمل معاً لتحقيق الاستقرار وتمرير الميزانية على الأقل.
لكن مهمة الرئيس أصبحت أكثر صعوبة لأن زعيمة أقصى اليمين، مارين لوبان وحزبها ”التجمع الوطني“، وحزب ”فرنسا الأبية“ (أقصى اليسار)، قد تشجعا بعد نجاحهما المشترك في الإطاحة ببارنييه.
وقال فرانك أليزيو، وهو نائب بارز في حزب التجمع الوطني، إن الحزب سيواصل الدفع بأولوياته مثل تحسين القدرة الشرائية للفرنسيين والحد من الهجرة.
أليزيو، الذي لم يستبعد إمكانية أن يطيح الحزب بالحكومة مرة أخرى، تابع: ”بطبيعة الحال ستبقى مطالبنا قائمة، أيًا كان رئيس الوزراء، لأن توقعات ناخبينا لم تتغير“.
ومما يزيد من تعقيد عملية بناء الائتلافات هو الأوزان السياسية الثقيلة التي تترأس مختلف الأحزاب والفصائل في البرلمان والتي تتنافس جميعها على خلافة ماكرون، على حد قول فايننشال تايمز.
وقال جان جاريجيز، المؤرخ المتخصص في البرلمان والدستور الفرنسي، إن ”جميع رؤساء الأحزاب مهووسون بانتخابات الرئاسة المقررة 2027، وهو ما يشكل سلوكهم“، مثل لوبان وزعيم اليسار، جان لوك ميلانشون".
قبل أن يضيف ”هذا ما يجعل من الصعب جدًا التوصل إلى حل وسط في البرلمان“.
نهج مختلف
وكسبيل للخروج من الأزمة، حث بعض اللاعبين البارزين على اتباع نهج مختلف لاختيار رئيس الوزراء المقبل، مقترحين أن يتفاوض النواب بدلاً من ذلك على شكل من أشكال ميثاق عدم الاعتداء بين الأحزاب، والذي من شأنه أن يحدد بعض السياسات المركزية التي يجب اتباعها مقابل الاتفاق على عدم إسقاط الحكومة.
وقال بوريس فالو، رئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان، إنه سيكون منفتحًا على مثل هذه المبادرة، دون أن يوضح ما إذا كانت المجموعة ستنفصل تمامًا عن حلفائها الحاليين في أقصى اليسار الذين يعارضون أي تعاون مع ماكرون.
ودعا غابرييل أتال، الوزير الأول السابق في حكومة ماكرون والذي يرأس حزب ”التجمع من أجل الجمهورية“ الوسطي، إلى تحالف مماثل يمتد من اليسار المعتدل إلى اليمين المعتدل، ولكن مع استبعاد ما أسماهم ”المتطرفين“.
وقال: ”هذا من شأنه أن يخرجنا جميعًا من الوضع الذي تكون فيه الحكومة رهينة مارين لوبان“، على الرغم من اعترافه بأنه لا يعرف ما إذا كان ذلك ممكنًا.
في خضم هذا التسييس المكثف، لا يزال يتعين إقرار ميزانية 2025 لتحل محل تلك التي أجهضها تصويت يوم الأربعاء، والتي كان من المفترض أن تعالج المالية العامة المتدهورة في فرنسا، بطريقة أو بأخرى.
إذا لم يتمكن البرلمان والحكومة من الوفاء بالموعد النهائي الدستوري لتمرير واحدة (نهاية العام) وهو ما حدث مرتين فقط في تاريخ فرنسا الحديث، فقد يتعين إجراء إصلاحات مؤقتة، مثل اعتماد قانون طوارئ وإجراءات تنفيذية لتجاوز قواعد الضرائب والإنفاق من العام السابق.
السيناريو الأسوأ
وحول السيناريو الأكثر ترجيحا، يقول محللون في بنك الاستثمار مورغان ستانلي، إن العجز سيزيد في عام 2025 إلى 6.3 في المائة، ارتفاعًا من حوالي 6.1 في المائة هذا العام، ومقارنة بـ 5.6 في المائة التي كانت متوقعة في إطار خطة بارنييه لشد الحزام.
وقال جان فرانسوا أوفرار، المدير التنفيذي للأبحاث الاقتصادية في مورغان ستانلي، إن الإصلاحات المؤقتة ”ستؤدي إلى ميزانية في عام 2025 لن تتضمن الزيادات الضريبية التي كانت مقررة في الخطة التي أجهضها البرلمان، وكانت ستتيح خفض العجز“.
في المقابل، قد يكون السيناريو الأسوأ هو الفشل غير المسبوق في سن ميزانية كاملة لعام 2025 بمجرد تشكيل حكومة جديدة في يناير/كانون الثاني.
ويقول الخبير في القانون الدستوري دينيس بارانجيه: ”هنا ندخل في منطقة مجهولة.. هذه لحظة غير متوقعة حقًا في الدستور".