فرنسا لا تزال الأولى أوروبيا.. لكن جاذبيتها الاستثمارية تتآكل أمام أمريكا

رغم حفاظ فرنسا على صدارتها كأول وجهة للاستثمارات الأجنبية في أوروبا خلال عام 2024، فإن عدد المشاريع الاستثمارية فيها بلغ أدنى مستوياته منذ 8 سنوات، وفقًا لمؤشر EY السنوي للدراسات الأوروبية.
فالأرقام الصادرة عن مؤشر EY السنوي تكشف عن تراجع حاد في المشاريع الجديدة وعدد الوظائف المرتبطة بها، في وقتٍ تشهد فيه الولايات المتحدة قفزة نوعية في جذب رؤوس الأموال. فهل ما زالت فرنسا قادرة على الإقناع وسط منافسة عالمية تشتدّ؟ وهل أوروبا مستعدة لتحديات الهيكلة والابتكار؟
من جانبه، علق مستشار التجارة الخارجية للرئاسة الفرنسية، ورئيس منظمة أرباب العمل الفرانكفونية جون لو بلانشييه لـ"العين الإخبارية" على التقرير قائلا:ً "صحيح أن فرنسا ما زالت تحتفظ ببريقها لدى المستثمرين، لكن هذا البريق بدأ يخفت أمام السطوع الأمريكي المدعوم بإجراءات تحفيزية كبرى.
وأوضح بلانشيه أنه "ما لم تعالج فرنسا وأوروبا عوائق الابتكار وكلفة الإنتاج، فإننا سنشهد تراجعًا تدريجيًا في تدفقات رؤوس الأموال، وهو ما قد ينعكس على النمو والتوظيف في السنوات المقبلة".
ومن المقرر أن يستضيف الرئيس إيمانويل ماكرون، يوم الإثنين المقبل، القمة السنوية Choose France، التي تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث يُنتظر الإعلان عن مشاريع كبرى تروّج لجاذبية الاقتصاد الفرنسي. إلا أن هذا الحدث، رغم زخمه، لا يُخفي تراجع أداء فرنسا في هذا المجال، والذي استمر في التدهور منذ ذروته عام 2021، بحسب محطة "بي.إف.إم" التلفزيونية الفرنسية.
فبحسب المؤشر السنوي لمكتب الدراسات EY، الذي نُشر يوم الخميس، بلغ عدد المشاريع الاستثمارية الأجنبية في فرنسا خلال عام 2024 ما مجموعه 1025 مشروعًا، وهو أدنى مستوى يُسجل منذ عام 2017 (باستثناء عام الجائحة 2020)، بتراجع نسبته 14% مقارنةً بعام 2023، وقرابة 20% مقارنةً بعامي 2022 و2021.
- من بوركينا فاسو إلى قمة التمويل الإفريقي.. إدريسا ناسا قصة نجاح صنعت فارقا
- الزيودي: الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للإمارات خارج آسيا
ومؤشر EY Attractiveness Survey أو "باروميتر EY" هو دراسة سنوية تُجريها شركة Ernst & Young ، وهي واحدة من أكبر شركات الخدمات المهنية في العالم. ويهدف هذا المؤشر إلى قياس جاذبية البلدان الأوروبية (وبعض المناطق الأخرى) للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وما يزيد الوضع سوءًا، أن هذه الاستثمارات لم تُنتج سوى 29 ألف وظيفة جديدة في 2024، بانخفاض بلغ 27% على أساس سنوي، و35% مقارنةً بعام 2021. وعلى الرغم من أن سنة 2021 كانت استثنائية – كما عام 2018 الذي شهد انتخاب ماكرون لأول مرة وأثار حماسة المستثمرين الدوليين – فإن هذا الانخفاض يعكس تحولًا واضحًا.
أداء أوروبي باهت.. وفرنسا تتصدر رغم التراجع
تشترك فرنسا في هذا التراجع مع قوتين اقتصاديتين أوروبيتين: ألمانيا والمملكة المتحدة. فبينما تعاني ألمانيا من ركود اقتصادي منذ نحو ثلاث سنوات، لا تزال بريطانيا تحاول التعافي من صدمة البريكست.
ورغم التراجع، تظل فرنسا في المرتبة الأولى أوروبيًا من حيث عدد الاستثمارات الأجنبية، متقدمة على المملكة المتحدة (853 مشروعًا، بتراجع 13%) وألمانيا (608 مشاريع، بتراجع 17%). ووصفت الرئاسة الفرنسية هذا التقدم بأنه "خبر سار"، مشيرة إلى أن "تربّع فرنسا على عرش الجاذبية في أوروبا لم يكن أمرًا بديهيًا قبل سنوات".
وبحسب مؤشر EY، بلغ عدد المشاريع الاستثمارية الأجنبية في فرنسا 1025 مشروعًا، ما يجعلها الدولة الأوروبية الأولى في هذا المجال، رغم التراجع المسجل مقارنةً بعام 2023.
وقد علّقت وزارة الاقتصاد الفرنسية على هذا التقرير بالقول إن "هذا دليل على صمود جاذبية فرنسا الاستثمارية، رغم الظروف الدولية الصعبة".
شوائب فرنسية: تراجع التوظيف وارتفاع التكاليف
لكن هذا الأداء يخفي بعض المؤشرات السلبية. ففرنسا تحتل المرتبة الثالثة فقط من حيث عدد الوظائف المولدة لكل مشروع: بمعدل 30 وظيفة في فرنسا، مقابل 48 في ألمانيا و125 في إسبانيا.
ويُظهر المؤشر أن انخفاض الوظائف بنسبة 27% بين عامي 2023 و2024 يعكس الحذر المتزايد لدى المستثمرين، إلى جانب ارتفاع التكاليف وطول إجراءات التأسيس.
ويظل العبء الكبير لتكلفة اليد العاملة في فرنسا أحد العوامل التي تعرقل خلق فرص العمل، حيث تبقى تكلفة ساعة العمل من بين الأعلى في أوروبا.
كما أن نمط الاستثمار في فرنسا يتميز بتفضيل التوسعة لمواقع قائمة (63%) بدلًا من إنشاء مشاريع جديدة من الصفر، وهي نسبة أعلى بكثير من المعدل الأوروبي (36%).
أوروبا كلها تتراجع.. وأمريكا تتقدم
ورغم محافظة فرنسا على الصدارة، إلا أن القارة الأوروبية ككل تعاني من تراجع في الاستثمارات الأجنبية للعام الثاني على التوالي، لتسجل أدنى مستوياتها منذ تسع سنوات (-5%).
في المقابل، حققت الولايات المتحدة زيادة بحوالي 20% في الاستثمارات خلال الفترة نفسها، بفضل برامج مثل IRA والسياسات المؤيدة للأعمال التي يروج لها دونالد ترامب، حسب التقرير.
وقد انخفضت الاستثمارات الأمريكية في أوروبا بنسبة 11% مقارنة بعام 2023، و24% مقارنة بعام 2022.
وجاء في تقرير EY: "أوروبا لم تعد تطمئن المستثمرين بشأن قدرتها على تجاوز الأزمات وتقديم حلول جديدة"، مشيرًا إلى أن القادة الأوروبيين يواجهون تحديات هيكلية مثل ضعف القدرة التنافسية، وانخفاض معدلات الابتكار مقارنةً بالولايات المتحدة والصين، ونقص العمالة المؤهلة والمدربة.
كما انخفض عدد الوظائف الناتجة عن الاستثمارات الأجنبية في أوروبا بنسبة 15% بين عامي 2023 و2024.
الصناعة الفرنسية في مأزق
ورغم الأداء النسبي الجيد، تعاني فرنسا بشدة في قطاعي الصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة. ويُشير التقرير إلى أن المستثمرين يعتبرون الجاذبية الصناعية الفرنسية متأثرة بعوامل عدة، منها؛ ارتفاع تكلفة الأجور، ونقص الأراضي الصناعية الجاهزة، وضعف تنافسية الطاقة، وبطء التحول التكنولوجي (كالروبوتات والابتكار).
كما أن قطاعات صناعية تقليدية مثل الكيمياء والسيارات تشهد حاليًا إغلاق مصانع أكثر من افتتاحها، للمرة الأولى منذ جائحة كورونا.
ويُظهر استطلاع EY أن الرؤساء التنفيذيين لا يزالون يعترفون بمقومات فرنسا مثل حجم السوق، والابتكار، والبنية التحتية، لكنهم يصطدمون بمشاكل على المدى القصير مثل: الربحية، واستقرار السوق، وتكاليف الطاقة، ومحدودية الوسائل المخصصة للانتقال البيئي.
نقاط القوة.. رغم هشاشة الوضع
رغم هشاشة النمو وتدهور المالية العامة، تُسجل الدراسة بعض النقاط الإيجابية، فإن فرنسا استطاعت اغتنام الفرص في قطاعات مستقبلية مثل: الذكاء الاصطناعي، الطاقة النظيفة، البرمجيات، والدفاع.
وتمتلك شركات فرنسية رائدة عالميًا في مجالات استراتيجية مثل الطاقة، الطيران، الصناعات الغذائية والدفاع.
على الصعيد الأوروبي، فإن غياب تام للصناعة في بعض المجالات (مثل أشباه الموصلات والمنصات الرقمية) يطرح تساؤلات حول السيادة الصناعية للقارة.
aXA6IDMuMTMzLjEwNi4yMDYg جزيرة ام اند امز