تعّبر أكثرّية السورّيين، ويعّبر محّبو سورية والعدل، وذوو المعايير الإنسانّية والأخلاقّية، عن ألم لا يصفه إلا الشعراء
تعّبر أكثرّية السورّيين، ويعّبر محّبو سورية والعدل، وذوو المعايير الإنسانّية والأخلاقّية، عن ألم لا يصفه إلا الشعراء. وبينما تمعن الأنظمة السورّية والروسّية والإيرانّية في تدمير حلب،
تساعدها التوابع والميليشيات، يرّش الإحساُس بالعجز مصحوبًا بالقرف من التخّلي الدولّي ملحًا كثيرًا على جرح يتقّرح.
وهذا اليأس المفهوم، بوصفه حالة شعورّية،ُيخشى تحّوله إلى حالة ذهنّية، وإلى معتقد تقوى عدمّيته الكارهة للعالم وتتأّصل.
ونحن في هذا الشطر من المعمورة لا ينقصنا البرم بالعالم، تضّخه أصًلا مشكلة فلسطين العالقة منذ عقود، كما يرفده اليوم إحساس بعضنا بأّن أصدقاء قدامى في الغرب خانوا صداقتهم ومالوا إلى إيران. وقبل هؤلاء، أحّس بعضنا بأّن اضمحلال دولة الشرق السوفياتّية ترك العرب بلا سند ولا ظهير. إّنه إذًا «الزمن العربّي الرديء»، وفق قول سقيم ورائج.
وهذه، على تعّددها، مصادر للغربة في عالم لسنا سعداء فيه، ولا يمكن أن تستوطنه السعادة. وكما في هذه الأّيام، مع توزيع جوائز نوبل،ُيعاد تذكيرنا سنوّيًا بأّن مساهماتنا في إنجازات دنيانا تكاد لاُتذكر.
والحال أّن العالم ليس سّيئًا ولا حسنًا، بل هو يسوء ويحسن. وهو، في حقبتنا الزمنّية، يسوء، ويتطّلب جهودًا ذاتّية، بينها جهودنا، لكي يحسن. لكْن لا بأس بأن نتذّكر أن بلدًا كبولندا جّزئ واقُتسم ثلاث مّرات في تاريخه الحديث، وأّن بلدًا كتشيكوسلوفاكيا السابقة بيع لهتلر قبيل الحرب العالمّية الثانية التي سبقها وتلاها نقل شعوب بأكملها من مكان اللبنانّيين، أواخر الثمانينات، ظلامة صغرى نسبّيًا. فهم بدورهم، بيعوا لحافظ الأسد مقابل اشتراكه في حرب الكويت، وارتفعت أصوات الكثيرين منهم تستهجن ذاك الاهتمام العالمّي بالإمارة الغنّية مقابل إشاحة البصر عن جمهورّية فقيرة. لكْن في 2005 ،عاد لبنان إلى صدارة الاهتمام العالمّي وأحرز استقلاله الثاني.
والأمور تسير، خطوات إلى الوراء وأخرى إلى الأمام، وعلينا أن نواكبها حّتى حين نعاندها، نغّيرها ونتغّير في الوقت عينه. أّما النوم على وسادة الصرخة العرفاتّية الشهيرة، عام 1982» ،يا وحدنا»، فأقصر الطرق إلى أن نبقى وحدنا، وأن نصبح أشّد وحدة، لا نجد ما نتلّذذ به إّلا ألمنا الذي نصير، والحال هذه، لا نتمّيز إّلا به بوصفنا الضحّية الفريدة. ولأّنه ليس من عالم سوى هذا العالم، يترك يأسنا وانكفاؤنا للوعي القاتل والسينيكّي أن يمضي في عدوانه على الحياة، كما يتركان للوعي الأصولّي أن يكّمل هذه المهّمة واعدًا بحياة وعالم آخرين ننساق تدريجًا إلى «تفّهم» طوباهما.
وكم كّنا وحيدين، قبل أّيام، في جنازة شمعون بيريز التي تقاطر إليها ممّثلو العالم، بينما نحن نسكر بتعبير «جّزار قانا». والتعبير، على صّحته، لا يختصر الرجل وتحّوله الذي كاد يعادل
تحّول دي كليرك في أفريقيا الجنوبّية، حين نقلته ظروف بلاده والعالم من أحد أركان النظام العنصرّي إلى شريك لنيلسون مانديّلا في تفكيكه. والأهّم، أّن الاحتفال ببيريز إن دّل إلى خطأ كبير في هذا الكون، فالاحتجاب عن خطأ، غدا إجماعًا، يصعب أن يكون صوابًا، ويستحيل أن يمّهد لبناء الصداقات والتأثير في العالم. إّنه سبب للحزن الشاّل والمشلول. وقد سبق للإسرائيلّيين أن قّدموا درسًا كان حرّيًا بِعَبره أن تستوقفنا. ففي 1956 ،دعم الأميركّيون عبدالناصر في مواجهة بن غوريون، فتقّدم الأّول لمواجهة النفوذ الغربّي ززًا بانتصار حّققه سواه، فيما تقّدم الثاني لمراضاة الولايات المّتحدة التي اكتشف أّنها حّلت محّل فرنسا وبريطانيا. وإذ مضى آيزنهاورُيفهم الإسرائيلّيين أّن العراق والخليج أثمن منهم لمصالح أميركا الاستراتيجّية في الحرب الباردة، مضى بن غوريون، بسلوك يخالطه التذّلل، محاوًلا أن يبرهن العكس لواشنطن. وبالفعل تبّين في 1967 ،أّن ما راهن عليه بن غوريون تحّقق، إذ تأّكدت لواشنطن فاعلّية التحالف الجديد، فيما أفضت رهانات المكابرة الناصرّية إلى هزيمة مطنطنة.
والآن، أكثر من أّي وقت، نحن مضطّرون إلى كسب الأصدقاء، مدركين أّنهم ليسوا نحن وليسوا مثلنا، وإلى إظهار أّننا نملك ما نقايض به العالم الذي لا تقتصر سّلة عملاته، للأسف، على سلعة الأخلاق والقيم. وشئنا أو أبينا، نحن مدعّوون إلى الرهان على تغّيرات الكوارث.
نقلاً عن صحيفة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة