اضطلعت إيران منذ سقوط نظام الشاه عام 1979 بمهمة التخطيط لتغيير معادلات التوازن القائمة في المنطقة ولعب دور إقليمي يعزز من نفوذها وذلك بالقيام بمهام خارج حدودها الجغرافية
اضطلعت إيران منذ سقوط نظام الشاه عام 1979 بمهمة التخطيط لتغيير معادلات التوازن القائمة في المنطقة ولعب دور إقليمي يعزز من نفوذها وذلك بالقيام بمهام خارج حدودها الجغرافية لتعزيز أمنها القومي عن طريق إضعاف قدرات جاراتها وممارسة التدخل في شؤونها الداخلية.
تتلخص هذه المهام بالعمل على تحويل الدول التي تقع ضمن دائرة اهتماماتها إلى«دول فاشلة» بمعنى جعل حكوماتها ضعيفة تفتقد القدرة على ممارسة مهامها.
النموذج الذي نجحت فيه إيران إلى حد بعيد هو النموذج اللبناني، فالميليشيا المسلحة تحت مسمى «حزب الله» التي تأسست عام 1982 بإرادة وأموال إيرانية أصبحت أداة السيطرة على القرار اللبناني حين أصبحت قوتها تفوق قوة الجيش اللبناني وها هي تثبت قدرتها على شل عمل الدولة، حيث يفشل المجلس النيابي للمرة الخامسة والأربعين في العشرين من سبتمبر المنصرم في عقد اجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية وهو المنصب الشاغر منذ ثلاثين شهراً.
هذا النموذج يجري تسويقه في كل من العراق وسوريا واليمن وربما في دول أخرى، حيث تصبح الميليشيات المسلحة أقوى من جيوش هذه الدول. ففي العراق يصرح قائد إحدى الميليشيات وهو يستعرض قواته في إحدى المدن بأن هذه الميليشيا قد أصبحت أقوى من الجيش العراقي وأقوى من الشرطة الاتحادية متجاهلاً ما لتصريح كهذا من تعريض بالجيش الذي يعتبر رمزاً لوحدة الوطن.
وفي اليمن يعلن الحوثيون عن تصميمهم على الاحتفاظ بالصواريخ البالستية كشرط لاستمرار المفاوضات مع وفد الحكومة الشرعية في رفض ضمني للمبادرة التي تقدم بها وزير الخارجية الأميركي لحل الأزمة اليمنية التي من أسسها نزع السلاح خارج الدولة.
بناء الدولة يعني بناء الأطر والهياكل الإدارية لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفق دستور يكون بمثابة عقد اجتماعي بين الطرفين، وهو هدف يشترك في الرغبة لتحقيقه الشعب بكامل مكوناته وألوانه وأطيافه.
ولكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك منظمات مستقلة عن الجهاز الإداري للدولة تسهم إيجابياً بأنشطة مدنية اجتماعية وثقافية وتمارس أعمالها منطلقة من شرعية تقر بها الدولة فهي منظمات مرخصة للعمل وفق الدستور ووفق القوانين المتفرعة عنه ولا تتعارض مع الأعراف السائدة في المجتمع.
إلا أن الميليشيات غير ذلك فهي فصائل مسلحة لها أجهزة إدارية ومالية واستخبارية تخدم ديمومة أنشطتها، ليست مستقلة عن أجهزة الدولة فحسب بل بديلاً عنها، وهي تتشكل في ظروف خاصة تصاب بها الدولة بالضعف والعجز عن أداء مهامها لتسمح لهذه الميليشيات بفرض حلول غير قادرة على فرضها وفق الأطر الدستورية لصالح أجندة سياسية ضيقة ترتبط في أغلب الأحيان بأهداف دولة أخرى.
فقد تجر هذه الميليشيات دولها إلى مواقف سياسية تحرجها وتفسد علاقاتها مع دول أخرى وقد تفرض عليها خوض حروب لم تختارها.
لا يوجد نص دستوري في أية دولة في العالم يسمح بحيازة أسلحة غير شخصية، فالمدافع والصواريخ وأنواع الأسلحة الأخرى التي في حيازة الميليشيات هي إحدى الظواهر البارزة في الدولة الفاشلة العاجزة عن فرض هيبتها.
تتستر هذه الميليشيات عادة تحت أغطية وشعارات سياسية مختلفة لتمرير مشاريعها كشعار«المقاومة» كما يتحجج بذلك حزب الله في لبنان أو الوقوف بوجه تنظيم «القاعدة» كما حاول الحوثيون تسويق مشروعهم أو مكافحة «الإرهاب» والتصدي لتنظيم داعش كما يسوق قادة الميليشيات أنفسهم في العراق.
علماً بأن أنشطة هذه الميليشيات وممارساتها لا تنسجم تماماً مع شعارات كهذه، فهي قد تشكلت أصلاً لأغراض أبعد من ذلك تخدم أهدافاً سياسية لدولة أخرى أو لتثبيت زعامات محلية لا تستطيع فرض وجودها بالطرائق الديمقراطية التي تعتمد على قدراتها في كسب تعاطف الجماهير.
إن أخطر التهديدات للأمن والسلم المجتمعي هو ضعف الدولة وتآكل شرعيتها وتراجع مصداقيتها وفقدانها القدرة على ضمان سلامة البلد وضمان أمنه القومي وسلامة مواطنيه والحفاظ على ثرواته، فضعف الدولة هو الذي يسمح لقوى أخرى بالظهور وممارسة دور مشابه لدورها وفق قواعد أخرى وأساليب مختلفة وأهداف مشبوهة.
إن تأسيس الدولة ليس بالأمر الهين وإذا رجعنا لتأريخ تأسيس الدول العربية الحديثة لوجدنا أن المخاض لذلك كان عسيراً في أغلب الأحيان تطلب مساعي حثيثة على أمد طويل من قبل المؤسسين الأوائل للتغلب على الإعاقات الداخلية والخارجية.
فتأسيس الدولة نقلة كبيرة في توازنات المنطقة سياسياً واقتصادياً وتغير جذري في حياة الفرد والمجتمع الذي يكتسب بعداً نفسياً يتسم بالزهو والكبرياء حين يكتسب السيادة على أرضه ويمتلك الخيارات في قراراته، لذلك يصبح التفريط بالدولة والاستهانة بسيادتها من الكبائر. هوية الدولة وليس الهوية الدينية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية هي التي يقدم بها الفرد نفسه أمام بقية العالم.
ستجد شعوب هذه البلدان التي تعيث فيها الميليشيات فساداً والتي تدفع ثمناً باهظاً بسبب غياب دور الدولة وتراجع هيبتها أن عليها أن تدفع المزيد ولكن هذه المرة لاسترجاع الدولة لأنها ستكون مضطرة في نهاية المطاف للوقوف بوجه هذه الميليشيات لنزع أسلحتها وتفكيك تنظيماتها وإعادة تأهيل منتسبيها في الأطر الوطنية للدولة رغم الصعوبات التي تقف أمام ذلك والتي أبرزها التعامل مع نزعة الولاء للطائفة التي نمت وتضخمت وتجذرت في الآونة الأخيرة وتقدمت على نزعة الولاء للوطن لتعيد بذلك توازنات القوى في المنطقة لتصبح في صالح شعوبها.
* نقلاً عن " البيان "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة