ليس بجديد أن تتوتر العلاقات الروسية الأمريكية وتتخذ مناحي تصعيدية، لكن الجديد في الموضوع أن يلامس التوتر قضايا استراتيجية في سياسات النظام العالمي،
ليس بجديد أن تتوتر العلاقات الروسية الأمريكية وتتخذ مناحي تصعيدية، لكن الجديد في الموضوع أن يلامس التوتر قضايا استراتيجية في سياسات النظام العالمي، لما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وربط تلك القضايا بملفات إقليمية متحركة، يمكن استثمارها بأشكال مختلفة من دون اللجوء لوسائل ربط نزاع، كما حصل مؤخراً.
فبعد سنة على عاصفة السوخوي التي أطلقتها موسكو في سوريا، وهي عاصفة موجهة إلى سياسات الولايات المتحدة في الأزمة السورية، ورغم النجاحات التكتيكية التي تمكنت موسكو من الوصول إليها، يبدو أنها استنزفت، وتآكلت بفعل التغيرات والتبدلات العسكرية، والأمنية في الميدان، الأمر الذي يتطلب رفع سقف التفاوض، وهو أمر رفضته واشنطن، بالتعبير صراحة أن لا كلام دبلوماسياً في الأزمة السورية، وملفاتها المتصلة، ما استدعى رداً روسيا عالي السقف، لا علاقة له أصلاً بإدارة الأزمة، أو بملفاتها المتصلة، واختارت إلغاء الاتفاق الذي تم التوصل إليه في مجال التخلص من مادة البلوتونيوم عالي التخصيب الذي يستعمل في إنتاج الأسلحة غير التقليدية.
إن ذلك الاتفاق يعتبر من مخلفات الاتفاقات السابقة بين موسكو وواشنطن في الحقبة التي تلت تلاشي الاتحاد السوفييتي، وكتلته، وهو يشمل أيضاً، بعض الدول التي انفصلت عن الاتحاد التي كانت تمتلك مثل تلك الأسلحة، أو التقنيات، مثل روسيا البيضاء، وأوكرانيا، واليوم تأتي الخطوة الروسية كرد فعل على مجموعة قضايا، من بينها الأزمة السورية، لكنها لا تشكل السبب الرئيسي، وإن كان المعلن كذلك.
إن كمية التلف المتفق عليها لا تتجاوز أصلاً 35 طناً، وهو رقم عالي المقاييس، لكنه لا يخدم بالضرورة إثارة أزمة دولية، إلا إذا كان المطلوب من الخطوة الروسية خدمة ملفات أخرى، ومن بينها قضايا روسية استراتيجية بالتحديد، وليس بالضرورة قضايا تتدخل موسكو في إدارتها، أو التأثير الوازن فيها. وإذا كانت موسكو استفادت عملياً من هذه الاتفاقات التي أبرمت في مراحل متقدمة من ولاية بوريس يلتسين والتي كانت فيها روسيا بحاجة لمساعدات اقتصادية من الغرب، فإن روسيا اليوم تعاني ما تعانيه من ضغوط اقتصادية، بعد العقوبات التي فرضت عليها على قاعدة الأزمة الأوكرانية، وغيرها، وبالتالي فإن الخيار الروسي في اتباع سياسات المواجهة، خيار يخدم قضايا استراتيجية متعلقة بالنظام، لا بسياساته، وبالتالي فإن التصعيد الروسي، وردود الفعل الأمريكية يمكن أن تتصاعد، وتتخذ أشكالاً متنوعة، ومختلفة. وما يعزز تلك الفرضية ساحات الصراع المفتوح، وإن كانت بالوكالة عبر الأزمة السورية، وغيرها من الساحات.
ففي الأسابيع القليلة الماضية تجدد الحديث عن إعادة ترتيب أوضاع، وخلط موازين قوى سورية داخلية، عبر إمكانية «أفغنة» الأزمة السورية، على قاعدة تحديث المنظومة الصاروخية للمعارضة السورية، وضخها بصواريخ «ستنغر» المضادة للطائرات، وهي، بالمناسبة، كانت سبباً رئيسياً في اهتزاز المنظومة الهجومية السوفييتية في أفغانستان آنذاك، ورغم ما يقال عن الطبيعة الجغرافية للدولتين غير المتطابقة، ونسبة النجاح في استثمار تلك الصواريخ، ثمة ما يقال الكثير أيضاً عن الذهاب بعيداً في تلك الفرضيات، وتغيير موازين قوى، ما يعزز سياسات حافة الهاوية التي تعتمدها موسكو في إدارة الأزمات الإقليمية ذات الطابع الدولي، ومنها الأزمة السورية.
وإذا صحت مثل تلك السيناريوهات الأكثر ترجيحاً، والأكثر تسريباً وتداولاً، فإن الساحة السورية ستكون مرتعاً خصباً للتصعيد والمضي في تلك السياسات، وبالتحديد في معركة حلب، التي تتميز عن غيرها بخصائص جيوسياسية ذات طابع استثماري كبير لكلا الطرفين، الروسي والأمريكي، وما يتبع لهما في الميدان، إنْ لجهة النظام، أو معارضيه.
تدخل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم منعطفاً انتخابياً رئاسياً فاصلاً، وهو أمر نجحت روسيا في اختيار توقيته للمواجهة على أعتاب انتقال سلطة رئاسية، لكن قدرة واشنطن، أياً تكن الإدارة المقبلة، قادرة على امتصاص المواجهات والتملص من نتائجها، بفعل عامل الوقت أولاً، وإغراق الروس في المستنقع السوري، وما يعزز تلك الرؤى المستنقع الأفغاني الذي لا يزال ماثلاً في الأذهان، والذي بفعله أنهى إيديولوجيات وحل أنظمة وأحلافاً سادت سبع عقود من عمر البشرية. فهل سياسات حافة الهاوية ستعيد رسم صور سابقة بين الطرفين؟ إن الأمر يبدو كذلك، بخاصة أن الضحايا هم الوكلاء أيضاً.
* نقلاً عن " الخليج "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة