عندما نقرأ كتب التاريخ وكتب الأخبار، ودواوين الشعراء، سنعثر على الاسم الأصلي لمدينة بغداد، والتي تعود أصل تسميتها إلى «مدينة السلام»، وبين الاسم والمسمى، مسافات وفواصل،
عندما نقرأ كتب التاريخ وكتب الأخبار، ودواوين الشعراء، سنعثر على الاسم الأصلي لمدينة بغداد، والتي تعود أصل تسميتها إلى «مدينة السلام»، وبين الاسم والمسمى، مسافات وفواصل، وعلى رأي علماء اللسانيات هناك ما نسميه «اعتباطية العلاقة» بين الدال والمدلول. فكل حكايا الخراب في التاريخ العربي القديم والحديث، بدأت من بغداد، وما دام الجرح لا يزال مفتوحاً، فإن آلام العرب لن تنتهي...
في اليوم التاسع من شهر صفر سنة 656 للهجرة والموافق العاشر من فبراير شباط من سنة 1258، ميلادي، سقطت مدينة بغداد، في أيدي المغول، وخضعت لحكم القائد العسكري هولاكو، الذي لم يبق ولم يذر في مدينة كانت تعد حاضرة العالم، ومنارة العلوم والثقافة. لن نستدعي كل تفاصيل ما حدث بعد احتلال المغول للعراق، وسقوط بغداد، لأن النتائج كما يقال هي بالخواتيم، والخواتيم كانت أن سلطان العرب والمسلمين، خرج من بين أيديهم، وتفرق دمهم بين قبائل ذلك العصر. سقطت حضارة العرب منذ ذلك الوقت، ولم تستطع أن تنهض من جديد رغم كل المحاولات، والتي تم إسقاطها بمؤامرات دولية. فبعد سقوط بغداد، جاء السقوط الثاني المدوي للحضارة العربية في الأندلس، وبدأ تاريخ الانحسار الكبير لهذه الحضارة.
ولعله من باب الصدف أن يكون يوم التاسع من أبريل نيسان سنة 2003، هو يوم سقوط بغداد في أيدي مغول العصر، فلبغداد مع يوم التاسع، حكاية سقوط مروع في مناسبتين، ومع كل سقوط للمدينة، تنتشر اللعنة في كل أرض العرب، لتكون أياماً سوداء حزينة، معفرة بالغبار والدماء. وما نعيشه اليوم من أحداث وما تسجله الكاميرات، لا يختلف كثيراً عن أيام هولاكو، التي التقطت تفاصيلها كتب الأخبار والمؤرخين. فصراع المماليك الذي انتهى إليه حال العرب بعد سقوط بغداد في أيدي المغول، هو ما نعيشه اليوم بعد السقوط الثاني لبغداد بين أيدي مغول العصر، هو صراع مماليك، يذهب بالحد الأدنى من القيم الإسلامية، التي يفترض أن تكون من أسس أخلاق المسلم.
بعد سقوط بغداد الأول، سقطت الأندلس، وبعد سقوط بغداد الثاني، سقطت دمشق في بركة دماء لا قعر لها. أما القدس، فقد سبقت بغداد ودمشق في السقوط الأول وفي السقوط الثاني، ولم يعد لها من يحلم بتحريرها، إلا بعض الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، إلا قوة إيمانهم بنصر قادم. الصورة قاتمة ومرعبة، لأن بغداد لم تنج في استعادة بسمتها، ولأن بغداد لم تنجح في أن تستعيد استقرارها، وفي أن تتجه من جديد نحو العلوم والمعرفة لتضيف للحضارة الإنسانية، ولتشع في التاريخ المعاصر.
العراق يتهيأ الآن، لتحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش، وبقدر ما يمكن أن ينتاب أبناء العراق، من سعادة غامرة، لأنهم سيطردون مرتزقة العصر من أراضيهم، بعد أن نهبوا الثروات واستباحوا كرامة النساء والرجال والشيوخ والأطفال، إلا أن القلق، والخوف يسيطران على جل آراء وتحليلات العراقيين أنفسهم، وسبب الخوف والقلق، هو أن تحرير الموصل لا يعني بتاتا عودة الوئام للشعب العراقي بكل مكوناته وطوائفه، بل قد يكون مدخلاً لمآسٍ وصراعات ستقضي على ما تبقى من النسيج الاجتماعي العراقي.
كل عربي شريف يتمنى أن تكون الموصل هي خاتمة أحزان العراق، وكل عربي شريف يتمنى، أن يعود العراق إلى وضعه الطبيعي، أي بلد العلوم والثقافة التي تشع على كامل أرجاء الوطن العربي. ولكن بين التمني والواقع، مسافات، وشروط يجب أن تتوفر، وأول هذه الشروط هي أن يقتنع العراقيون أنفسهم بأن خدمة الأجندات الخارجية، لن تزيدهم إلا خراباً ودماراً، وأن العراق هو حاميتهم الوحيدة، وهو وسيلتهم للتقدم والتطور. وما سوى ذلك فهو مزيد من الغرق في حروب المماليك والطوائف التي ستجعل أرض السواد، أرضاً يباباً، على رأي شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب.
*نقلا عن جريدة "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة