يثير موضوع الزمن مشكلات فلسفية شتى، لم نستطع الإحاطة بها كلها فى سياق بحث سبق أن قدمناه فى مؤتمر «مستقبل الثقافة العربية» الذى نظمته مجلة «عالم الفكر».
يثير موضوع الزمن مشكلات فلسفية شتى، لم نستطع الإحاطة بها كلها فى سياق بحث سبق أن قدمناه فى مؤتمر «مستقبل الثقافة العربية» الذى نظمته مجلة «عالم الفكر».
وقد نشرت أوراق المؤتمر فى مجلة «عالم الفكر»، عدد «403، يونيو 1998». والبحث يتساءل، أين نحن الآن من نهضة مطلع القرن؟ وقد حاول «جون زرزان» فى مقالة جامعة له عن الزمن، أن يجمع أشتاتاً من الأفكار حول الزمن من مصادر شتى، قديمة وحديثة، غير أنه فى الحقيقة لم يزد طبيعة الزمن إلا غموضاً، لأنه جنح إلى صياغات مجردة من قبيل «أننا مع الزمن نحن نجابه معضلة فلسفية وسراً سيكولوجيا ولغزاً منطقياً»، وفى محاولة منه لبيان استعصاء تحديد مفهوم الزمن، يستشهد بالفليسوف الفرنسى المعروف «ﭘول ريكور»، حين ذكر «إننا عاجزون عن إنتاج مفهوم للزمن يكون كونيا وبيولوجيا وتاريخيا وفردياً فى نفس الوقت» ويعقب عليه قائلا أن «ريكور» فاته أن هذه الأنماط من الزمن تختلط مع بعضها اختلاطا شديدا بحيث لا يمكن الفصل بينها.
وأيا كانت مشكلة الزمن فلسفيا، فمما لا شك فيه أن الثقافات المختلفة فى العالم تنظر إليه نظرات قد تتشابه فى جوانب، ولكن من المؤكد أنها تختلف اختلافات جسيمة من جوانب أخرى. وإذا اعتمدنا على الثلاثية الكلاسيكية» الماضى والحاضر والمستقبل، وحاولنا أن نفحص كيف تنظر كل ثقافة لها، لأدركنا على الفور التأثير الثقافى الواضح على مدلولات الزمن بالنسبة لهذه الوحدات الثلاث، فمن المؤكد أن نظرة كل ثقافة إلى الماضى تكاد تحدد موقفها من الحاضر، ويشير فى نفس الوقت إلى صورة المستقبل الذى نسعى إلى تشكيله وتحقيقه على أرض الواقع.
ولو نظرنا إلى الثقافة العربية الراهنة، وفحصنا الفكر العربى فى اتجاهاته الغالبة الآن، لأدركنا أن مشكلة الماضى تكاد تستغرق إحساسه بالحاضر، وتغلق فى نفس الوقت عليه أبواب المستقبل.
ولعل هذه الاعتبارات هى التى دفعت بعض المثقفين العرب أن يطرحوا سؤالا رئيسيا: هل الزمن العربى الذى نعيشه يماثل الزمن الغربى؟ بعبارة أخرى هل نعيش كعرب فى نفس المناخ الذى يسيطر على الزمن الغربى بمشكلاته ومناهج تفكيره، أم أن الزمن العربى –نتيجة للفجوة التاريخية الكبيرة بيننا وبين الغرب- له خصوصية خاصة، ولا علاقة له بالزمن الغربى؟.
سبق للمفكر الإيرانى المشهور «على شريعتى» أن أثار هذا السؤال المحورى حين قرر «أنه ينبغى على المثقف أن يسأل نفسه أولا: فى أى زمن نعيش؟ هل نعيش فى القرن الثامن عشر عصر صعود العقل والعقلانية، أم نعيش فى القرن التاسع عشر عصر الثورة الصناعية، أم فى القرن العشرين عصر الثورة العلمية والتكنولوجية»؟ وفى تقديره أن الإجابة على هذا السؤال هى التى ستحدد طبيعة المشكلات التى ينبغى على المثقف فى المجتمعات الإسلامية أن يتصدى لها.
والواقع أن المقارنة بين الزمن العربى والزمن العالمى تثير على الفور مشكلة التأخر والتقدم. ذلك أن هناك إجماعا بين الباحثين الاجتماعيين أن ما يطلق عليه «البلاد النامية» تعانى من مظاهر متعددة للتخلف إذا ما قورنت بالبلاد الغربية المتقدمة. وهذا التخلف جاء بعد مرحلة تاريخية كان فيها العرب والمسلمون رواداً فى مختلف فروع العلم والفلسفة. وفى هذا الصدد يقرر «هاشم صالح» فى مقالة نشرها فى جريدة «الشرق الأوسط» بعنوان «نحن والفكر الأوروبى» فى «1994/1/18»!
«بعد أن توقفنا كعرب ومسلمين عن إنتاج العلم، والذى استمر فى القرن الثالث عشر، وربما القرن الرابع عشر، متنا أو نمنا نومة أهل الكهف، وحين استيقظنا لم ندر ماذا نفعل؟ هل نركب قطار الحضارة من آخر نقطة وصل إليها، أم نعود إلى محطاتها الأولى، نقطعها درجة درجة ومرحلة مرحلة»؟.
الأسئلة التى يطرحها «هاشم صالح» أسئلة جادة وخطيرة، لأنها تتعلق بصميم تصور المثقف العربى لمهمته فى هذه المرحلة التاريخية الحاسمة التى تمر بها البشرية والوطن العربى على السواء.
هل هناك حقا جدوى –أى جدوى- من الانشغال بمشكلات الحداثة وما بعد الحداثة، ومن عرض آراء وأفكار نجوم الفكر الفلسفى المعاصر أمثال: ميشيل فوكو، وليقى ستراوس، وبورديو، فى الوقت الذى تسوده القبلية، ويهيمن عليه الاستبداد السياسى، وتغمره فى الوقت الراهن موجات الفكر الخرافى والرجعى؟ هل له علاقة –أى علاقة- بمشكلات المجتمع الغربى، الذى تسوده الثورة العلمية والتكنولوجية، ويجابه مشكلات انتهاء الحداثة، والدخول فى عالم ما بعد الحداثة، والذى يدعو إلى إلغاء سيطرة المؤسسات الطاغية على حياة البشر، سواء كانت مؤسسات سياسية أو اقتصادية أو إعلامية؟.
ولعلنا نتساءل: لماذا نصوغ القضية وكأنه لا حل إلا بالرجوع إلى الوراء لدراسة مرحلة تأسيس الفكر الأوروبى، أو بالاندفاع إلى الأمام وعرض وتحليل المنجزات الراهنة بغض النظر عن تاريخها؟ ألا يمكن بخيال فكرى إبداعى تصور استراتيجية ثقافية تقوم على دراسة الحاضر؟.
ومن هنا فى الوقت الذى ينبغى فيه دراسة نشأة وتطور الفكر الأوروبى الحديث باستخدام مناهج «علم اجتماع المعرفة»، أى بالربط الوثيق بين الإنتاج الفكرى والبناء الاجتماعى، لابد لنا أن نعمق دراسة أحدث التيارات فى هذا الفكر. ونحن نعتقد أن النتيجة الرئيسية التى نخلص إليها، وهى أن مشاكلهم ليست مشاكلنا، وإن كانت المنهجيات التى يستخدمونها لحل مشاكلهم تهمنا، ويمكن لنا أن ننقلها ونستفيد بها.
على العكس تماما، نحن نزعم أن مشكلات مجتمع ما بعد الحداثة -بالرغم من أنها تجابه المجتمع الغربى المتقدم أساسا- هى مشاكلنا أيضاً، ذلك أن القضايا الخاصة بسقوط الحتمية التاريخية، وانفتاح التاريخ الإنسانى، وتحطم الأبنية الشمولية، سياسية كانت أو فكرية، واتساع دائرة الاختيار أمام البشر، وانتهاء طغيان وسيطرة العقائد الإيديولوجية الجامدة، وتحسين نوعية الحياة، ومجابهة تلوث البيئة، كل هذه ليست مشكلات الفرد الغربى فقط، ولكنها مشكلة الإنسان فى كل مكان. دراسة هذه المشكلات بأقصى قدر من الدقة، ومن خلال المنهج النقدى ضرورة أساسية من وجهة نظرنا، ليس فقط لكى نتابع ما يجرى فى العالم ما حولنا، ولكن أيضا لأنها يمكن أن تساعدنا فى التصدى الكفء لمشكلاتنا فى المجتمع العربى.
ترى هل هناك ما هو أفضل من المنهج المقارن، لكى نستبصر بمشكلاتنا، ولكى نواجه الأوهام الخاصة بتفرد الهوية، والأساطير المتعلقة بسيادة العالمية؟
ولو طبقنا هذا المنهج لاكتشفنا أن العالم كله فى الشرق والغرب والشمال والجنوب على السواء يواجه ما يطلق عليه «حقبة الاضطراب العالمى».
ومن هنا أهمية تحديد السمات الفارقة لهذه الحقبة.
*نقلا عن جريدة "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة