كلما تقدم الفرد في السن أصبح يحن لماضيه أكثر، وهناك أجيال شابة تمثل الأكثرية في العالم العربي، وليس لدى معظمها حنين لخصوصية ثقافية
كأمة سجلنا حضوراً مخجلاً ومتواضعاً لثقافتنا على الساحة العالمية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل فعلاً الخصوصية الثقافية لها حجم أهمية مساوٍ لما كان عليه الحال قبل 40 سنة مضت؟
فاليوم تختلف نظرة الأجيال للثقافة، وبالضرورة كلما تقدم الفرد في السن أصبح يحن لماضيه أكثر، وهناك أجيال شابة تمثل الأكثرية في العالم العربي، وليس لدى معظمها حنين لخصوصية ثقافية قد لا تعكس ثقافة جيلها. هو معترك صراع كون هذا الجزء من العالم لا يملك المقومات التسويقية والجاذبية لجعل ثقافته ماركة عالمية يرغب الآخرون في تبنيها أو الانجذاب لممارساتها، فالجينز الأمريكي كملبس غيّر أنماط بعض الشعوب أكثر من مليون رواية أو ألف فيلم عربي على سبيل المثال.
وتتباين مقدرة المجتمعات على الصمود ضد ذلك التيار الجارف والأمواج الثقافية والاستهلاكية المربوطة بثقافة ما وفق قوة وعي المجتمع بأهمية ثقافته، كما هو حاصل في اليابان كنموذج على ذلك.
وهو عامل محوري في التأثير على المفاهيم التجريدية مثل الثقافة أو البنيوية كالهوية مما يقودنا للهوية الثقافية، والتي تعكس الحاجة إلى الاعتراف بثقافة المجتمع وآليات التعبير عنها، وكيف تتغنى ثقافة ما بأمجادها أو تفخر بشواهد مادية أو معنوية تعبر عن طريقة فهمها وتناولها للحياة والمحددات والموجهات والقيم الأهم التي تمثل الشعب ككتلة واحدة، وتكون بالتالي الشخصية الوطنية لتلك الفئة البشرية..
ولا أعتقد أنها مسألة غزو ثقافي بقدر ما هي عدم تكافؤ ومساواة في التبادل الثقافي بين الشعوب في تبادل أحادي وثقافة مستوردة بصورة رئيسية، وأخرى مصدرة تشكل مفاهيم الأذكى والأنجح والأرقى والأكثر تحضراً وجاذبية وقبولاً ومنطقية وحميمية.. إلخ، والقائمة تطول لما تصنعه الحضارة المسيطرة أو الأكثر انتشاراً ونجاحاً بعقول وقلوب وميول الحضارة المنقادة، أو التي تسعى إلى تكرار النموذج الناجح أو الانتصار عليه وفرض واقع ثقافي جديد، مما يوضح لنا أهمية البعد الثقافي كسلاح جديد لا يقل أهمية عن الأسلحة التقليدية.. والفارق الوحيد أنه يستعمرك ويسلبك كل مواردك بمحض إرادتك.
ويعتقد البعض لدينا أن الخصوصية هي احتقار الآخرين وتهميش الجوار والانتصار للفئوية، وحسابات أخرى متعلقة بالمركزية الاقتصادية والسياسية والمعرفية والروحية، وبالمقابل تنغمس الخصوصيات الثقافية في مهب العولمة الثقافية.
ويبدو لي أن الأمم التي تعتبر التفكير مرضاً يجب أن يعالج منه الإنسان لديها مشكلة في بناء «مدن الرب» في دول مدنية جوهرها الحرية والقوانين والنظم الدستورية الحاكمة لسير الأمور وتسييرها تنفيذياً وإدارياً، حيث إن العقل لا يمكن أن يحكم الواقع ما لم يكن الواقع في حد ذاته معقولاً، ومن هذا الباب برزت تحديات العقل الأصولي والتقليدي والرافض للتغيير الإيجابي أمام اختبار الحداثة.
وفي ظل تمايز ثقافي واضح، تتأجج المشكلة بين أدلجة الدين وأبلسة الآخر من جهة، وعسكرة السياسة وفردية القرار وشيطنة الدين من جانب آخر، مما أدى إلى تبني حداثة عرجاء وعلمانية يغيب عن مشهدها العلمانيون العقلانيون، بجانب تمييع أهمية التجديد الديني، وجعل الدين صناعة ولصق التدين بالتطرف، وجعل المجتمع المدني نقيضاً للدين وليس المجتمع الديني الثيوقراطي، واعتبار اتباع التمسك بالثقافات واللغات المحلية تخلفاً ورجعية، وكلها للأسف أدوات إقصاء قصري للمختلف، وفشل ذريع في محاولات التقارب والتقريب بين أنماط التفكير المتنوعة في مجتمعاتنا، وآلية تمرير للأحكام المسبقة مغلّفة بالتعصب المدمر لقيم وممارسات التسامح والتعايش الحضاري بين الأمم، بل بين أبناء المجتمع الواحد، وتصحبها ردة فعل رافضة تماماً للاندماج حتى الجزئي والنوعي منه في ثقافة النخب المحلية والإقليمية والعالمية وتردي الثقافات الوطنية، مما أدى للانسياق أو التمرد الأعمى للعولمة، وإفراغ الثقافات الوطنية من طاقاتها الفاعلة لتحل بدلاً منها مفاهيم خرجت كالخفافيش من دهاليز التغريب، وبروز الإرهاب الثقافي والفكري والقيمي والمعنوي كمقدمة لما جاء بعده من إرهاب مادي عنيف.
فالثقافة والتمدن والتحضر لهم أشكال ومخرجات متنوعة عبر الزمان والمكان، وليس لها معايير ثابتة، ولذلك التراجع والتأخر الذي نعاني منه في خصوصيتنا الثقافية والثقافة الإنسانية بصورة عامة، كان نتيجة حتمية لما أصابنا من تصحر ذاتي في سياق ثقافي انهزامي، ونبرة خصوصية مبالغ فيها، وسوء توظيف لقراءات الحاضر قبل المستقبل، لينتهي بنا المطاف أن نصبح أمة تابعة بامتياز، ضائعة بين هويتها الأصلية والهوية التي تهيمن على واقعها، وعصيان وانقلاب ثقافي بين الكثير من الشباب العربي على موروثه وتراثه الثقافي.
* نقلاً عن جريدة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة