لقد أصبح ارتفاع معدل النمو السكانى فى مصر خلال الفترة الأخيرة يمثل أعلى المعدلات فى المنطقة العربية
لقد أصبح ارتفاع معدل النمو السكانى فى مصر خلال الفترة الأخيرة يمثل أعلى المعدلات فى المنطقة العربية (مقدرا بنحو2.6 % خلال 2013/2014) لا يسبقها سوى جمهورية السودان الشقيقة (باستبعاد دول الخليج التي يخضع النمو السكاني فيها لأثر الهجرة)، مما يهدد بابتلاع أى جهد تنموى مصري فى كل من المدى القصير والمتوسط والبعيد .
ويعود ارتفاع معدل النمو السكانى فى مصر إلى أسباب عدة تتلخص فى جانبين : الزيادة الطبيعية للسكان، وانخفاض مستويات الهجرة إلى الخارج مع جفاف مقاصد الهجرة العربية للعاملين المصريين خلال ربع القرن الأخير، ونقصد العراق أولا، ثم ليبيا، وأخيراً الخليج.
وأما الزيادة الطبيعية فإنها تعود إلى ارتفاع معدل الولادات، من جهة أولى، لتزايد معدلات الخصوبة ـ وتعرف وفق أحد المؤشرات بمتوسط عدد الأطفال الصغار للمرأة الواحدة فى سن الحمل خلال عام معين ـ وتطور وسائل علاج العقم وتأخر الإنجاب، وانخفاض معدل وفيات المواليد و وفيات الأمهات، فى أثناء الولادة، إلى جانب الاهتمام بصحة الحامل.
من جهة أخرى يلاحظ انخفاض معدلات الوفيات مع التقدم الطبى والصحى بعامة فيما يدرسه علم «الطب الاجتماعى» ومن ثم ارتفاع متوسط العمر المتوقع عند الميلاد .فى هذا المناخ المستفحل قبيل وبُعَيْد ثورة 25 يناير 2011 فى ظل الإرث المجتمعى الكارثى لحقبة «السادات – مبارك» ، أصبح الإقبال على تكوين الأسر الجديدة من أبرز دوافع السلوك الاجتماعى العام، وأصبحت عملية تكوين الأسرة تحتل أولوية عالية فى مدارات الاهتمام الشخصى للأجيال الجديدة . بل لعل أنشطة الزواج واقتناء العقار وبناء المساكن غدت من أهم الأنشطة الاقتصادية – الاجتماعية للطبقات الاجتماعية المسماة فى التراث البورجوازى بالطبقات الشعبية ، وهى القوى المنتجة حقاً، ومنها الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها؛ فضلاً عن إقبال الأجيال الوسطى الجديدة على إنجاب أكثر من طفلين ، مما تدل عليه الاحصاءات الديموغرافية والحيوية المتاحة.
أما لدى بقية الطبقات المنتجة على الدرجات الأقل من حيث مستوى الدخل (و الإنفاق) أو ما تسمى بمحدودى الدخل، فإن تكوين الأسر الجديدة و الزواج والإنجاب صار يمثل أحد أهم الآليات على الإطلاق لكسب الرزق وإعالة الأسرة ومساعدة الأب – أو الأم – فى ذلك ، بما يترتب عليه من ارتفاع معدلات التسرب الدراسى وانخفاض معدلات القيد والانتظام و تزاد ظاهرة «الغياب» المدرسي.فإذا أضفنا إلى ذلك ما هو معروف من إفلاس النظام التعليمى التام خلال حقبة (1971-2011) بمعقباته المأسوية فيما بعد ثورة يناير حتى الآن ، فإن ذلك يحيلنا مرة أخرى إلى إضعاف الدوافع للاستمرار فى التعلّم والاستثمار العائلى والاجتماعى فى التعليم . أضف إلى ذلك أيضا تخلخل الصلة بين ما يسمى بمخرجات التعليم وبين متطلبات التنمية وسوق العمل ، مما يؤكد ضعف المنظومة التعليمية ودورها التنموى عامة. أمّا ضعف أو إفلاس المنظومة التدريبية – فى النطاق المهنى و التقنى -فإنه يضيف ضعْفاً إلى ضعف عملية التأهيل المعرفى فى عصر «اقتصاد المعرفة».
تلك إذن حلقة مفرغة: إذ نلاحظ ضعف الجهد التنموي الحقيقي خلال العقود الأربعة الأخيرة ، إلى درجة «العدم» تقريبا، مع الاقتصار على أعمال «حل المشكلات الخانقة». كما أن ضعف العملية التنموية أدى إلى تواضع مستويات إدماج السكان في النشاط الاقتصادي، و تعمق الخلل في هيكل التشغيل والإنتاج وذلك بالتحيز للأنشطة البعيدة عن دائرة الزراعة والصناعة و خدمات التكنولوجيا. و يتمثل ذلك بصفة خاصة فى الأنشطة التقليدية المرتبطة بالعقارات و التشييد وبناء المساكن.
وقد تعاظم دور الأنشطة (الهامشية) المذكورة ، خدميا وسلعيا، إلى حد أن كان قطاعا الاتصالات والعقارات هما الأعلى من حيث معدل النمو بين كل قطاعات الناتج المحلى الاجمالى قبل ثورة يناير، وقد أطلق عليها المخططون (الزائفون) فى تلك الفترة مسمّى (القطاعات النشيطة) ..! و يعنى هذا سدّ الطريق أمام عملية التنمية الحقيقية المرتكزة على التصنيع وتصنيع الزراعة، وتطوير التكنولوجيا ومن ثم إقفال دائرة «الحلقة المفرغة» التى أشرنا إليها سلفاً .
وفى ظل إقفال دائرة التنمية بصفة تامة أو شبه تامة ، حتى يناير 2011 ثم يونيو 2013، اقتصرت محاور النشاط الاقتصادى الفعال على أعمال الكسب المالى السريع فيما يسمى بالتكاثر المالى على حد تعبير اسماعيل صبرى عبد الله .. و توجهت عملية التكاثر المالى إلى تسريع عملية «التكاثر السكانى-الإسكاني» عبر تكوين الأسر الجديدة ، برغم ارتفاع معدلات الطلاق بين الزيجات الجديدة نسبياً ؛ وبذلك اكتملت دائرة أخرى – مغلقة أيضا – فيما يبدو ، هى دائرة «التكاثر المالى والسكانى» .. فأى كارثة تنموية مستقبلية أشدّ من ذلك، وخاصة مع تركيز قنوات المال والزيادة السكانية فيما يمكن أن نطلق عليه « الانفجار السكانى – الإسكانى». فما البديل..؟
البديل فيما نتصور يكمن فى إحداث تحول جذرى فى أولويات السياسات العامة و الحكومية، وفى الذهنية الاجتماعية أيضا، بالانتقال من أعمال التكاثر المالى والبشرى، ومن التركيز السكانى – الإسكانى، إلى الأنشطة المرتبطة بتراكم رأس المال الإنتاجى.
وإن مفهوم رأس المال هنا غير قاصر على الآلات والمعدات الإنتاجية فقط ، مما يلزم الاهتمام به فى الصدارة ، وإنما صار يمتد إلى ما يسمى «رأس المال المعرفى»، من خلال التعليم المتطور والتدريب المتناسب، وارتباطهما بمتطلبات التنمية. ومن وسائل التحكم فى التكاثر البشرى بصفة خاصة ، نشير إلى ضرورة العمل على ضبط معدل الولادات إلى الحدود المعقولة، ليس كما فعلت الصين برفعها شعار (طفل واحد لكل أسرة) ولكن بما هو أكثر ملاءمة لنا، وليكن ذلك من خلال شعار (طفلان لكل أسرة) ..! .وليكن معلوماً أن ضبط معدل الولادات لن يتم بمجرد الإعلان وحملات (التوعية) ولكن بتغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية للسكان، من خلال توفير فرص التشغيل وكسب الدخول ورفع مستويات «التعليم للجميع» و الربط بين المنظومة التعليمية – التدريبية ومتطلبات التنمية واحتياجات السوق العمل .
ولنضع أمامنا مثالاً تقريبياً إرشاديا من واقع تجربة الصين الشعبية فى معالجة قضية (السكان- التنمية) ، لتكون مصر بمثابة (صين مصغرة) وإلاّ تحولت مصر بعد عشرين عاما مثلاً – إن لم تعالج القضية – إلى ما يشبه (بنجلاديش مكبرة نوعيا وإن لم يكن عدديا) ..! مع أمل بأن ترتقى بنجلادش ومصر وسائر العالم الآخذ فى النمو إلى ما يليق بالجميع من مكانة عالية فى إطار النظام العالمى. فإذا شئنا إذن أن نلخص «شعار المرحلة» من المنظور التنموى والمستقبلى لقلنا دون تردد : الانتقال من التكاثر المالى والبشرى إلى التراكم الرأسمالى عينياً ومعرفياً؛ أو قل فى عبارة واحدة : من التكاثر إلى التراكم .. و هو عنوان المقال ..!
*- نفلاً عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة