تتسم مؤسستا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بهيكل للقوة في صنع القرار يتيح سيطرة حفنة قليلة من البلدان عليهما.
استبقت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل انعقاد اجتماعات الربيع للمؤسستين الماليتين الأهم في عالمنا (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) يوم 12 أبريل/نيسان المقبل بدعوتها في نهاية الأسبوع الماضي إلى إجراء إصلاحات بالبنك والصندوق لجعلهما أكثر تكيفا مع عالم يشهد تغيرات سريعة. وقالت ميركل إن البنك الدولي بحاجة إلى زيادة لرأس المال، وإن صندوق النقد يحتاج إلى تغيير نظام الحصص الذي يحدد القوة التصويتية للدول الأعضاء، وجددت دعوتها إلى القيام بإصلاحات للمنظمات الدولية لاستيعاب الصعود السريع للصين.
الأرجح هو استمرار الخلل أو عدم الاتساق بين واقع توزيع القوة الاقتصادية الدولية وهيكل وكيفية صنع القرار داخل المؤسسات المالية الدولية، وهو الاختلال الذي دعا ميركل إلى تسميته بصراحة وشجاعة "ضرورة استيعاب الصعود السريع للصين".. لكن السؤال المطروح هو: هل تقبل الولايات المتحدة بذلك؟
وبينما تأتي هذه الدعوة منسجمة مع ما يحدث من تطورات فعلية في حلبة الاقتصاد العالمي، إلا أن الاستجابة لها خاصة من قبل الولايات المتحدة مشكوك فيها، لأنها ستخل بوضع أمريكي فريد داخل هاتين المؤسستين.
تتسم مؤسستا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بهيكل للقوة في صنع القرار يتيح سيطرة حفنة قليلة من البلدان عليهما، إذ تم تحديد القوة التصويتية لكل دولة وفقا لحصتها النسبية من رأسمال كل من المؤسستين، ويحدد هذا بدوره بناء على صيغة تتضمن حجم الناتج المحلي الإجمالي، ودرجة الانفتاح الاقتصادي، إلى جانب عدة معايير أخرى. وبينما يبلغ عدد الدول الأعضاء 190 دولة، فإن حصة البلدان الخمسة الصناعية المتقدمة في صندوق النقد الدولي تصل إلى نحو 38% من إجمالي القوة التصويتية، بينما تبلغ القوة التصويتية لعدد 185 دولة عضو نحو 62%.
وإذا ما علمنا أنه في بعض القرارات الأكثر أهمية يتم اشتراط نسبة أغلبية تبلغ 85%، فإن البلدان المتقدمة فرادى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو مجتمعة يكون لديها فعليا حق "الفيتو" على كل ما لا ترضى عنه من قرارات، حتى لو أرادتها أغلبية الدول الأعضاء في الصندوق. أي أن نظام الصندوق يتيح لحفنة من الدول الصناعية المتقدمة السيطرة على عملية صنع القرار داخله، وبما يتفق بالطبع مع مصالحها ورغباتها، بل إن إقرار أي تغيير في توزيع الحصص ذاتها يخضع لاشتراط هذه النسبة.
وبينما كان من اليسير نسبيا أن تتنازل الولايات المتحدة في السابق عن جزء من حصتها، فقد كان هذا يتم على الأغلب لصالح دول حليفة وفي ظل احتفاظها دوما بحق الفيتو. أما الآن فأي تغيير يتم بناء على الصيغة المتوافق عليها لتوزيع الحصص سوف يخل بوضعها الفريد داخل الصندوق، حيث سيهدد امتلاكها لقوة الفيتو، وستنخفض الحصة النسبية للولايات المتحدة داخل المؤسسات المالية الدولية إلى النصف تقريبا، لكن كما سبق الإشارة فإن القبول بخفض هذه الحصة النسبية كان ممكنا عمليا خاصة قبل المراجعة التي تمت في سبتمبر/أيلول 2006 لسببين: أولهما أن التنازل كان يتم في الغالب لصالح قوى حليفة، وثانيهما أنه تم إجراء تعديلات على آليات صنع القرار داخل مؤسستي صندوق النقد والبنك الدوليين.
وقد أتت القرارات الأخيرة في تعديل الحصص التي تساهم بها الدول الأعضاء في الصندوق، والتي وصفت حينها بأنها تاريخية وفقا لقرار وزراء مالية مجموعة العشرين عند اجتماعهم في كوريا الجنوبية يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 2010. ونص قرار وزراء مالية المجموعة على مضاعفة حصص البلدان الأعضاء في صندوق النقد الدولي لتبلغ نحو 476.8 مليار وحدة حقوق سحب خاصة (نحو 755.7 مليار دولار) بدلا من الحصص التي كانت تبلغ قيمتها آنذاك 238.4 مليار وحدة حقوق سحب خاصة، مع حدوث زيادة في الحصص النسبية، وبالتالي في القوة التصويتية لصالح بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية الديناميكية. وقد تم هذا تحت ضغط الأزمة المالية العالمية وتوابعها خاصة في أوروبا التي كانت بحاجة إلى حجم تمويل ضخم للتغلب عليها، وكان هذا التمويل متوفرا لدى بعض الدول التي لديها احتياطات نقدية كبيرة مثل الصين وبعض دول البريك (البرازيل، روسيا، الهند، الصين). ونتيجة لهذا القرار انتقلت بلدان الأسواق الصاعدة الكبرى خاصة دول بريك لتصبح بين البلدان العشرة صاحبة أكبر الحصص في صندوق النقد الدولي، ولتحتل الصين المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة واليابان.
ووفقا للقرار تم نقل نحو 6% من الحصص إلى البلدان الصاعدة، وأتى نحو نصف تعديل الحصص من خفض حصص البلدان الصناعية المتقدمة خاصة الأوروبية، والثلث من بعض الدول البترولية والباقي من الدول النامية.
وقد اتفق الوزراء كذلك على تعديل تشكيل المجلس التنفيذي لصندوق النقد بما يعزز تمثيل بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، حيث تخلت الدول الأوروبية المتقدمة عن مقعدين في هذا المجلس، إضافة إلى الاتفاق على أن يتم انتخاب أعضاء المجلس التنفيذي الأربعة وعشرين كلهم، على عكس النظام القديم الذي اقتصر على البلدان الخمسة ذات الحصة الأكبر في الصندوق، أما الأعضاء الآخرون فيتم انتخابهم، علاوة على أن المدير العام للصندوق الذي يرأس أعمال المجلس التنفيذي يتم اختياره من بين البلدان الأوروبية وفقا للتفاهم القائم مع الولايات المتحدة التي تحتفظ في المقابل بحق تعيين رئيس البنك الدولي من بين مواطنيها.
ولكن ورغم هذه التغيرات "التاريخية" ظلت الحصص وبالتالي القوة التصويتية لا تنسجم مع المكانة الفعلية لبعض البلدان الأعضاء خاصة بالنسبة إلى اقتصاد ضخم مثل الصين، وهو ما استدعى المطالبة دوما كما فعلت المستشارة الألمانية بإجراء تغييرات تحترم الصيغة المعتمدة لتحديد حصص الأعضاء.
المرجح أن التغييرات المقبلة في الحصص ستقلب الأوضاع داخل المؤسسات المالية الدولية، فالولايات المتحدة باتت مهددة الآن بسحب قوة الفيتو المنفرد منها، وهو ما ستقاومه بكل تأكيد، بحيث إنها إما لن تقبل أبدا بأن تقل قوتها التصويتية عن 15%، وإما أن تسعى لرفع نسبة التصويت المطلوبة لإقرار القرارات المهمة إلى أغلبية في الأصوات، لكنها في هذه الحالة ستمنح الصين أيضا التي سترتفع حصتها إلى أكثر من 12%، الحق نفسه في الفيتو. فمن اللافت تأخر الصندوق في إجراء الحسابات الخاصة بالمراجعة الخامسة عشرة للحصص، وهي المراجعة التي ينبغي أن تتم حسب لوائح عمل الصندوق كل 5 أعوام على الأكثر، أي كان ينبغي أن تتم في عام 2015، حيث أجل الصندوق النظر في هذه المراجعة إلى أن يتم نفاذ القرارات الخاصة بالمراجعة الرابعة عشرة، وهو ما لم يحدث سوى في بداية عام 2016. وعمدت الولايات المتحدة إلى تأخير الموافقة على هذه المراجعة. ووفقا للحسابات التي قام بها الصندوق تمهيدا للاتفاق على المراجعة الخامسة عشرة من المنتظر انخفاض حصة الولايات المتحدة في صندوق النقد الدولي إلى نحو 14.7% بدلا مما يقرب من 17.4% حاليا، كما من المنتظر ارتفاع حصة الصين إلى 12.8% بدلا من نحو 6.4% حاليا.
ومن المؤكد أن المراجعة الخامسة عشرة، التي من المقرر أن يتم النظر فيها مبدئيا أثناء اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين يوم 12 أبريل/نيسان، وأن يتم الاتفاق عليها بشكل نهائي في أكتوبر/تشرين الأول، لن تجد طريقها على الأغلب للتنفيذ إلا بعد سنوات طوال، هذا في حالة الموافقة عليها فعليا. والأرجح هو استمرار الخلل أو عدم الاتساق بين واقع توزيع القوة الاقتصادية الدولية وهيكل وكيفية صنع القرار داخل المؤسسات المالية الدولية، وهو الاختلال الذي دعا ميركل إلى تسميته بصراحة وشجاعة "ضرورة استيعاب الصعود السريع للصين". لكن السؤال المطروح هو: هل تقبل الولايات المتحدة بذلك؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة