الواقع أن عملية الوحدة النقدية وإصدار العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" كانت منذ بداياتها عملية صعبة وحرجة
أبقى البنك المركزي الأوروبي يوم الأربعاء الماضي أسعار الفائدة عند مستوياتها الراهنة البالغة الانخفاض حتى نهاية العام على الأقل، مع ضمان استمرار مستويات التضخم قريبة من معدل 2% على المدى المتوسط، ويأتي الحفاظ على السياسة النقدية الشديدة التيسير نتيجة الانخفاض البالغ في معدلات التضخم، إلى جانب استمرار معدلات النمو المنخفضة تاريخيا في دول منطقة اليورو لفترة طويلة، إلى حد أن الركود بات يهدد الاقتصاد الألماني أكبر اقتصادات المنطقة وأكثرها تطورا.
ورغم هذا الاضطرار للسياسة النقدية التيسيرية إلا أنها كما هو واضح حتى الآن لم تساعد على استنهاض اقتصادات منطقة اليورو، والأكثر أهمية أن الجميع يعلم أن البنك المركزي الأوروبي ما زال حتى اللحظة الراهنة يضع نصب أعينه بشكل رئيسي وشبه وحيد هدف مجابهة التضخم، لذا فاتجاه البنك لسياسة نقدية متشددة إذا ما أطل التضخم برأسه مرة أخرى هي قضية مفروغ منها، بغض النظر عن مستوى النشاط الاقتصادي في هذه الدولة أو تلك من دول منطقة اليورو.
الواقع أن عملية الوحدة النقدية وإصدار العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" كانت منذ بداياتها عملية صعبة وحرجة، إذ تختلف البلدان أعضاء منطقة اليورو في هياكلها الاقتصادية، وطبيعة المشكلات الاقتصادية التي تواجهها، ومن هنا فقد كان رأي البعض منذ البداية أن عملية الوحدة النقدية تنطوي على مخاطر كبيرة
الواقع أن عملية الوحدة النقدية وإصدار العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" كانت منذ بداياتها عملية صعبة وحرجة، إذ تختلف البلدان أعضاء منطقة اليورو في هياكلها الاقتصادية، وطبيعة المشكلات الاقتصادية التي تواجهها. ومن هنا فقد كان رأي البعض منذ البداية أن عملية الوحدة النقدية تنطوي على مخاطر كبيرة، فالسياسة النقدية الصحيحة والملائمة لفرنسا وألمانيا على سبيل المثال قد تكون مكلفة وتدفع بمخاطر كبيرة في بلدان مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال الأقل تطورا، وتجلى الأمر بصورة أكثر مأساوية فيما بعد مع أزمة اليونان وإسبانيا في نهايات عام 2010 وعام 2011، حيث بلغت معدلات البطالة ما يقرب من 30% في كلا البلدين، ومما يعقد من الأوضاع أن أي إجراء تتخذه الحكومات لمعالجة مشكلة البطالة كان لا ينسجم بالضرورة مع السياسة النقدية المتشددة للبنك المركزي الأوروبي آنذاك، مما يزيد من صعوبة الأوضاع الاقتصادية في هذه البلدان، فتدعيم سياسة اليورو القوي يزيد من أسعار الصادرات ويخفض من تكلفة الاستيراد في الدول الأعضاء في منطقة اليورو.
ومنذ البداية وحتى قبل إطلاق اليورو في الأول من يناير عام 1999 كان هناك اتجاهان اتسم بهما الجدال حول إطلاق العملة الموحدة وتأسيس البنك المركزي الأوروبي والسياسة النقدية المفضلة. الاتجاه الأول هو المتعلق بالسياسات الاقتصادية الوطنية، فالبنك المركزي الأوروبي مسؤول بطبيعة الحال عن صنع السياسة النقدية "الوطنية"، على الرغم من أن منطقة اليورو ليست دولة واحدة، ومع ذلك فإنه لأغراض السياسة النقدية تُعامل كافة البلدان الأعضاء في المنطقة كما لو كانت دولة واحدة، وتواجه تلك السياسة بالتالي التحديات التي تواجه صانعي السياسة النقدية في أي بلد من البلدان.
وبالطبع فإن ما يعقد من مهمة البنك المركزي الأوروبي في هذا الصدد هو ذلك الاختلاف الكبير ما بين الهياكل والمشكلات الاقتصادية بين البلدان الأعضاء في دول المنطقة والتي سبق الإشارة إليها، فدولة مثل ألمانيا على سبيل المثال كانت دوما نتيجة لماضيها الأليم خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لديها هاجس قوي ضد ارتفاع معدلات التضخم، ولذا كان البنك المركزي الألماني (البوندسبنك) معروف تاريخيا ربما بكونه أكثر بنوك العالم المركزية تشدداً في سياسته النقدية، بهدف محاربة التضخم الذي كان يعد دوما الهدف الأسمى الذي يعلو على أي هدف آخر للسياسة النقدية الألمانية، بينما كان الحال على العكس تماما في بلدان مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال التي تعد في حاجة إلى سياسة نقدية أقل تشددا بكثير، إن لم تكن سياسة توسعية تهدف إلى محاربة البطالة.
وفي حقيقة الأمر فإن الموقف الألماني المتشدد جدا والذي كان يستهدف دائما معدلات التضخم تقرب من صفر% كان يدفع لا محالة نحو ضعف معدلات النمو الاقتصادي، ويزيد من مخاطر ارتفاع معدلات البطالة في الدول الأخرى، وكان هناك أمل يراود الدول التي انضمت إلى منطقة اليورو أن السياسة النقدية الأوروبية ستتخلص من تلك القبضة الألمانية المتشددة لتقع في قبضة صانعين للسياسة النقدية أقل تشددا، بحكم أن البنك المركزي الأوروبي سيتشكل من الدول الأعضاء في المنطقة، ولكن في كل الأحوال كان التفويض الممنوح للبنك المركزي الأوروبي -خضوعا للنفوذ الألماني- هو تفويض وحيد يرتبط بمجابهة التضخم.
الأمر المهم الثاني كان يرتبط بالتعاملات الخارجية لمنطقة اليورو، وكان السؤال المطروح هنا يتعلق بسعر صرف اليورو مقابل العملات الدولية الأخرى لا سيما الدولار الأمريكي، وفي هذا الصدد كان الاختيار ما بين عملة قوية تهدف إلى منازعة الدولار كعملة دولية وهو ما يقتضي وجود سعر فائدة حقيقي مرتفع، وعملة ضعيفة نسبيا تجعل من السلع الأوروبية أكثر تنافسية في الأسواق العالمية مقابل سلع البلدان الأخرى.
ربما ما يعقد من الأمر أن المصالح ليست مختلفة على مستوى الدول الأعضاء فقط، بل إنها تختلف ما بين قطاعات المجتمع الواحد أيضا، وكما هو الحال في أي مجتمع من المجتمعات ودرجة تضرره أو استفادته من السياسة النقدية المطبقة، وعلى الرغم من أن أهداف مثل محاربة التضخم ووجود عملة دولية قوية قد تعد أهدافا مقبولة بشكل عام، إلا أن تلك الأهداف تتطلب بالضرورة أسعار فائدة أعلى لمحاربة التضخم، وهو ما يجعل في الوقت نفسه العملة الموحدة أكثر جاذبية، ومن ثم يرفع من سعر صرفها أمام العملات الدولية الأخرى.
أضف إلى هذا أن المدخرين الأوروبيين بشكل عام في كافة الدول أعضاء منطقة اليورو كانوا يرحبون بالطبع بارتفاع أسعار الفائدة وإبقاء معدلات التضخم في حدودها الدنيا؛ لأن هذا في مصلحتهم، ولكن مثل هذا الموقف كان سيأتي بطبيعة الحال ضد مصالح أخرى يهمها أكثر خلق المزيد من الوظائف (نقابات العمال على سبيل المثال)، وضد مصالح هؤلاء الذين يهدفون إلى زيادة صادراتهم أو منافسة البضائع الأجنبية الأرخص ثمنا؛ حيث يؤدي سعر الصرف المرتفع للعملة الأوروبية إلى تدهور وضعهم التنافسي.
أما السياسة النقدية الميسرة التي تعمل على خفض أسعار الفائدة، فترتبط أكثر بسعر صرف يساعد المنتجين الأوروبيين على منافسة المنتجين الأجانب، كما تساعد هذه السياسة على مزيد من تحفيز النمو وتوفير الوظائف، وهو ما قد يكون هدفا لأقسام واسعة من السكان، ناهيك عن أن سعر الفائدة المنخفض يعد هدفا مفضلا من قبل المقترضين عموما، سواء في ذلك الشركات التي قد تساعدها أسعار الفائدة المنخفضة على التوسع الاستثماري واحتواء عنصر التكلفة، أو المواطنين الذين يقترضون لأغراض استهلاكية شتى، خاصة قروض الرهن العقاري لامتلاك المنازل.
وكان الموقف بالطبع مربكا بالنسبة لبعض الفئات من حيث السياسة النقدية المفضلة، فالمصنعون الذين ينتجون سلعا تعد الجودة والنوعية وليس السعر هو سبيل المنافسة الرئيسي -سلع الاستهلاك الترفي كالسيارات المرفهة أو السلع الإلكترونية ذات المحتوى التكنولوجي الفريد والرفيع المستوى- يجدون في استقرار سعر صرف العملة الأوروبية هدفا أهم من هدف عملة أوروبية ضعيفة، وهو ما يتناقض على طول الخط مع مصالح المصنعين داخل الدولة نفسها للسلع التي تعتمد على الأسعار كسبيل رئيسي وربما وحيد للمنافسة مثل الملابس والمنسوجات والأحذية والصلب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة